تواصلت التحولات الجوهرية في مسار الحرب على غزة، لكن هذه المرة لم تأتِ من الميدان، بل من القنوات الخلفية للدبلوماسية الدولية التي بدت وكأنها تقلب الطاولة على بنيامين نتنياهو، فتخرجه من موقع "من يصنع القرار" إلى موقع المتفرج على تفاهمات تتجاوز رأسه.
ففي وقت كانت "إسرائيل" تعتقد أن سياسة "الضغط حتى الانهيار" سوف تُجبر حركة حماس على القبول بشروط تل أبيب لصفقة محدودة، باغتت الحركة الجميع بمناورة معقدة: إطلاق سراح الجندي الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر، من دون أي مقابل، وبعيدًا عن الوساطة الإسرائيلية، كخطوة أولى في مسار تفاوضي مع واشنطن نفسها.
محادثات سرية… ومفاجأة لنتنياهو
نقلاً عن وكالة "أسوشيتد برس"، فإن المباحثات التي قادت إلى الإفراج عن ألكسندر جرت خلال الأيام الخمسة الماضية فقط، بين ممثلين من حركة حماس ومسؤولين أميركيين، بوساطة قطرية ومصرية. الرسالة التي نُقلت لحماس كانت واضحة: "أعطوا ترامب هدية، يعطيكم هدية أكبر"، كما صرّح مصدر من داخل الحركة للوكالة.
وبينما كانت تل أبيب تتأهب لتوسيع عملياتها العسكرية في رفح، وقع عليها الخبر كالصاعقة. فقد أثبت أن أميركا قادرة على التحاور مع حماس دون الرجوع إليها، وأن الملف الإنساني في غزة يمكن أن يُفصل عن الأجندة العسكرية "الإسرائيلية"، وأن هناك من يستطيع تحريك المياه الراكدة من دون انتظار "إذن نتنياهو".
هذا ما عبّر عنه صراحة رئيس المعارضة يائير لابيد، الذي وصف الحدث بأنه "فشل سياسي ذريع" للحكومة. أما وزير الدفاع السابق بيني غانتس، فذهب أبعد من ذلك، معتبرًا أن "نتنياهو تخلّى عن رهائنه وتركهم لمصيرهم".
حماس تُمسك بالورقة الأميركية
في أول إعلان رسمي، أكدت حركة حماس أنها أجرت اتصالات مباشرة مع الإدارة الأميركية، وأبدت "إيجابية عالية" تمهيدًا للتوصل إلى اتفاق شامل يحقق وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وفتح المعابر، وبدء إعمار القطاع. اللافت أن الحركة، وفق تصريحات القيادي أسامة حمدان، قدّمت لائحة بأسماء شخصيات تكنوقراطية لقيادة غزة في مرحلة ما بعد الحرب، ما يدل على استعدادها للدخول في تسويات سياسية، شرط وقف الإبادة الجماعية.
الرد الأميركي جاء على لسان دونالد ترامب نفسه، الذي اعتبر إطلاق سراح عيدان ألكسندر "خطوة حسنة النية تجاه الولايات المتحدة"، وألمح إلى أن هذا يمكن أن يكون بداية نهاية الصراع في غزة. وأكدت الخارجية القطرية أن هذه الخطوة تُعد مؤشرًا إيجابيًا للعودة إلى طاولة المفاوضات.
لكن الأكثر دلالة كان تصريح مبعوث الرهائن الأميركي آدم بولر، الذي قال إن “الإفراج عن أميركي هو بداية إيجابية”، داعيًا حماس لإطلاق بقية الأميركيين، أحياءً وأمواتًا.
صفقة من وراء ظهر إسرائيل
المفارقة الكبرى أن كل ما جرى تم "من وراء ظهر" "إسرائيل". مكتب نتنياهو لم يجد ما يقوله سوى إن “الولايات المتحدة أبلغتنا فقط بنيّة حماس الإفراج عن الأسير الأميركي، دون مقابل، ودون علمنا المسبق”. وأضاف أن "المفاوضات ستستمر تحت النار"، مؤكّدًا أن "إسرائيل" ستواصل أهدافها العسكرية، حتى مع بدء التفاوض الأميركي-الحمساوي.
لم يكن هذا المشهد معزولًا. فالاتفاق بين واشنطن وحماس، سبقه اتفاق مشابه مع جماعة "أنصار الله" في اليمن، حيث أبرمت واشنطن تفاهمًا أمنيًا يضمن حرية الملاحة الأميركية دون أن يشمل المصالح "الإسرائيلية". وفي كلتا الحالتين، تم تجاهل تل أبيب، ما يعكس بداية تحوّل أميركي في أولويات المصالح، لم يعد فيها الحفاظ على التفوق "الإسرائيلي" شرطًا مُسبقًا.
تصدّع في الجدار "الإسرائيلي"
بهذا المعنى، فإن ما حدث لا يشكل فقط فشلًا سياسيًا لحكومة نتنياهو، بل إنه يدق إسفينًا جديدًا في المنظومة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية". فالاتفاق الأميركي مع حماس لم يكن فقط تجاوزًا لدور إسرائيل، بل كسَر أحد أهم أدواتها: سلاح التجويع.
لقد تبنّت "إسرائيل" منذ بداية مارس سياسة تجويع ممنهجة في قطاع غزة، مصحوبة بإعلانات إعلامية فجّة عن "أخلاقية الجوع" و"موت الغزيين من الشيخ إلى الطفل"، وكان هدفها دفع حماس إلى القبول بصفقة مذلّة تشمل إطلاق نصف الأسرى، وهدنة قصيرة دون تعهد بوقف الحرب أو انسحاب عسكري. لكن الاتفاق الأميركي قلب هذا التصور: حماس أطلقت أسيرًا من دون مقابل، لا لأن "إسرائيل" ضغطت، بل لأن ترامب أراد ذلك.
وبينما كانت حكومة نتنياهو تعوّل على استمرار الضغط لإنضاج الصفقة، جاء الإفراج عن ألكسندر كضربة تُظهر أن حماس لا تزال تملك أوراقًا تفاوضية، وأن تجويع الناس لا يعني خضوعهم، وأن إسرائيل ليست اللاعب الوحيد في المعادلة.
ترامب… ومشهد جديد في الشرق الأوسط
بالتوازي، لا يمكن قراءة هذا التغيير دون التوقّف عند دور دونالد ترامب. فالرئيس الأميركي السابق، والمُقبل على معركة انتخابية حاسمة، يسعى إلى استعادة دوره في الشرق الأوسط، لكن بطريقة تختلف عن رؤساء سابقين.
ترامب يُفضّل التعامل مع اللاعبين "غير الرسميين" إن كانوا يُحققون مصالحه. تعامل مع طالبان، فتح قنوات مع الحوثيين، والآن يفاوض حماس. هو لا يمانع عقد صفقات مع قوى تصنّفها واشنطن "إرهابية" إن كان ذلك سيمنحه ورقة انتصار.
أما نتنياهو، فلا يملك أوراق ضغط على ترامب، لا سياسيًا ولا حزبيًا. فبينما استطاع في السابق المناورة مع رؤساء ديمقراطيين، عبر تحالفه مع الحزب الجمهوري، فإنه اليوم يواجه زعيم الحزب الجمهوري نفسه، الذي يتجاهله، ويفضّل التفاهم مع أعدائه السابقين.
فشل مركّب في تل أبيب
ما يتشكل اليوم ليس فقط صفقة إنسانية لإطلاق سراح أسير، بل منعطف استراتيجي في التعامل الأميركي مع ملفات الشرق الأوسط. تسقط فيه أولى لبنات جدار المنظومة "الإسرائيلية": فشل سياسي داخلي، انقسام مجتمعي، عجز عسكري في الميدان، وفقدان تدريجي للهيبة الدولية.
إن استمرار واشنطن في هذا المسار التفاوضي مع حماس، سيُضعف موقف "إسرائيل" التفاوضي، ويكسر احتكارها للقرار بشأن غزة، خصوصًا إذا ما أفضت المفاوضات إلى وقف دائم لإطلاق النار، أو اتفاق يُلغي أهداف الحرب المعلنة.
الرسالة واضحة: "إسرائيل" لم تعد تملي الشروط. والأميركيون بدأوا يضعون مصالحهم أولًا.
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]