الخميس 19 كانون الثاني , 2023 02:29

جذور واتجاهات الصراع الديني - العلماني في الكيان المؤقت

مجموعة من اليهود الحريديم (الجزيرة نت)

يعيش الكيان المؤقت ارهاصات حرب أهلية، كونه كياناً هجيناً، كما أن دولته دولة التناقضات، فما يشهده الكيان المؤقت من صراعات لها جذور متجذرة في هذا الكيان، منها الصراع الديني– العلماني، وصراع اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الاشكيناز) وصراع اليمين واليسار، ولكل صراع مظاهره وقضاياه.

ترجع جذور هذا الصراع الى ما قبل ظهور الصهيونية، وبالتحديد الى أوائل القرن الثامن عشر، عند قيام ما يسمى حركة التنوير بإزاحة الدين اليهودي من موقعه كمحدد رئيسي لمسألة الانتماء اليهودي، وطرحت مبدأ "كن يهودياً في بيتك، وإنساناً خارج بيتك".

وقد انقسم اليهود بين مؤيد للتنوير، ومعارض له، وتجلى ذلك الانقسام بين يهود أوروبا الشرقية ويهود أوروبا الغربية.

ومع ظهور الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، جذبت عدداً كبيراً من اليهود العلمانيين، وعارضها العدد الأكبر من المتدينين، وحاربها البعض باعتبارها اغتصاباً وقحاً للخلاص الرباني الذي ينتظره اليهود على يد المسيح، ومع ذلك، نجحت الصهيونية في استقطاب تأييد بعض اليهود المتدينين من خلال إنشاء حزب ديني، يؤيد مقولاتها، هو حزب مرزاحي في عام 1902.

ومع نجاح الصهيونية في إقامة الكيان المؤقت تقلصت المعارضة الدينية للصهيونية، وشاركت الأحزاب الدينية الصهيونية وغير الصهيونية في الحكومة المتعاقبة من أجل حماية مصالحها وتحقيق مطالبها الدينية وغيرها عن طريق المساومة السياسية. لكن الأحزاب الحريدية اللاصهيونية ظلت مع ذلك تنتظر الخلاص الديني، وتعارض الخلاص البشري العلماني الذي تمثله الدولة.

وفي ربيع 1967 و 1973 حدث تطوران مهمان؛ حيث أوصلت حرب حزيران 1967 الكيان المؤقت الى الحد الأقصى من التوسع في فلسطين، الأمر الذي اعتبره كثير من المتدينين معجزة تبشر بالخلاص الإلهي لليهود، أما حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 فأزالت حزب العمل القائد التاريخي للكيان، وتمت السيطرة للصهيونية العالمية (العلمانية) على الدولة، وهكذا أصبح الطريق ممهداً ليس فقط لصعود التيار اليميني العلماني في الصهيونية الى الحكم في عام 1977، ولكن الأهم في هذا المقام هو زيادة نبرة التطرف الديني، ومشاركة القوى الدينية بفاعلية أكبر في الشؤون السياسية، وفي عمليات الاستيطان وتهويد الأراضي العربية المحتلة من منطلقات دينية، وكانت ذروة ذلك التوجه ظهور حركة غوش إيمونيم (كتلة المؤمنين). ولم يعكس هذا التحول حقيقته تقارباً بين الأحزاب الدينية والصهيونية، ولكن عكس حلولاً دينية محل الصهيونية المتداعية، حيث إن الأحزاب الدينية المستجدة اعتنقت التطلعات "القومية" الصهيونية، وترجمتها الى مصطلحات دينية، أي أنها استولت على الصهيونية العلمانية، كما فعلت الصهيونية في البداية بصهينتها الأسطورة الدينية اليهودية وتحويلها الى أسطورة "قومية"، ولذا تصاعدت حدة الصراع العلماني – الديني وأصبح صراعاً مستعصياً على الحل.

كما تداخلت الصهيونية بمرادفتها بين الدين والقومية، لتزيد في هذا الخلط بالتمييز بين يهود صهاينة يطلق عليهم "اليهود القوميون"، ويهود غير صهاينة يطلق عليهم "الأرثوذكس"، أو "الحريديم"، أو اليهود فوق الأرثوذكس (Ultra-Orthodox) وهي تسمية تشير الى التشدد الديني وليس الى المذهب اليهودي، حيث إن الارثوذكسية هي المذهب السائد بين يهود الكيان، سواء لدى اليهود الصهاينة أو غير الصهاينة. ولا توجد أحزاب يهودية تمثل التيارين المحافظ والاصلاحي، اللذين يشكل أتباعهما أقلية صغيرة، ولذا فإنه تم الاتفاق على تقسيم المجتمع اليهودي في الكيان على مجموعات تتدرج من حيث الالتزام الديني بين العلمانية الصرفة إلى الغلو الديني.

إن نسبة العلمانيين في المجتمع الإسرائيلي تبلغ 20% وتقدر نسبة اليهود التقليديين بنحو 55% ومعظمهم من اليهود الشرقيين وأبنائهم، وتبلغ نسبة اليهود المتدينين الصهيونيين نحو 17%، والحريديم نحو 8 %.

من قضايا الصراع العلماني – الديني، قضية الهوية، حيث يعمل التيار الديني على فرض الطبيعة الدينية على الكيان المؤقت في مختلف مناحي الحياة العامة، فرض الشريعة، وهي شريعة تهتم بالفعل بمختلف تفاصيل الحياة، ويؤدي الحاخامات دوراً حاسماً في توجيهها، فالحاخام يتدخل في كل شيء، ويجب على الحريدي طاعته طاعة عمياء.

إن قادة الأحزاب الدينية يسعون الى تحقيق مصلحتين محددتين الأولى: وهي تقوية الشخصية اليهودية للدولة، كما ظلت منذ بداية المشروع الصهيوني، وأن يدّرس الدين اليهودي في النظام التعليمي بطريقة ملائمة، والثانية: هي المساواة بين الحريديم وغيرهم من مواطني الكيان في الحصول على المنافع المادية والتعليمية والسكنية، وأن تمد الدولة المساندة نفسها للصياغات المتنوعة من التعليم العام واليهودي الذي يفضله الأرثوذكس والحريديم، والنظر الى هذه الأحزاب باعتبارها تمثل مصالح مشروعة لفريق كبير من السكان الإسرائيليين مثل أي فريق له مصالح مشروعة.

أما الجانب العلماني، فيهدف الى تعزيز الطبيعة المدنية للدولة، كدولة قوانين وضعية، والفصل بين الدين والدولة، وقصر سلطة الحاخامات على الشؤون الدينية المحضة.

يكتسب الصراع العلماني – الديني على الهوية خطورة بالغة، ويوضح خصوصية الحالة الإسرائيلية، من حيث حدتها وجذريتها وأزمات الشرعية والهوية والتكامل التي يعانيها الكيان المؤقت، حيث بات يظهر على السطع تشرذمه وتخبطه والذي سيؤدي الى انهياره أو دخوله في حرب أهلية تؤدي الى اندثاره.


الكاتب: نسيب شمس




روزنامة المحور