دخل لبنان مرحلة خطرة يصعب التنبؤ بمآلاتها. اذ يقتصر السؤال حالياً على ما يحمله المستقبل. ولنكن أكثر دقة، عن مستقبل "الدولة" ككيان ومؤسسات وسيادة. وبينما يغرق بعض الأفرقاء السياسيين بالترويج "لأحلام التغيير" الآتية، ويذهب آخرون لتبني توقعات أكثر تشاؤماً، تبقى الحقيقة الثابتة أن مختلف الأطراف يحركون بحذر قطع الشطرنج، والنقاش لا يقتصر على حجم الضربة التي تلقتها بيروت خلال الحرب، بل على قدرة الولايات المتحدة -التي تمسك برقبة القرار السياسي والاقتصادي اللبناني- على إدارة الأزمة. اذ أثبتت السنوات الأخيرة، ان ليس لدى واشنطن رفاهية "اللعب الحر"، فهي وان امتلكت القدرة على التعطيل، عاجزة عن فرض "نظام جديد".
هذه ليست مجرد أزمة نفوذ، بل أزمة مشروع. لم تعد واشنطن قادرة على إنتاج نظام سياسي مستقر في لبنان، كما فعلت بعد عام 2005، ولا حتى على استخدام العقوبات لخلق توازن جديد، كما حاولت بعد عام 2019. إنها تسيطر، لكنها لا تحكم. وقد يكون هذا الكلام مفاجئاً، بعد الحرب التي تلقى فيها حزب الله ضربة قوية باغتيال أمينه العام الشهيد السيد حسن نصرالله وعدد من قياداته، في ظل الرغبة الصريحة لدى واشنطن وأدواتها في الداخل، على تقديم ما جرى على أنه فرصة حقيقية لاحكام القبضة وقلب الموازين. على الرغم من أن الحرب التي عجز خلالها جيش الاحتلال من السيطرة على قرى الجنوب وأجبر على التراجع بعد معركة الخيام، كانت بعد اغتيال القادة، كبرهان على صلابة المقاومة واستمراريتها، ولو أنها تحتاج بعض الوقت لاعادة ترميم البيت الداخلي.
وللمفارقة، أن واشنطن التي أفشلت انتخاب رئيس لبناني جديد، عبر ربط أي تسوية بإضعاف المقاومة، كانت عرّابة مرحلة مشابهة سابقاً، عندما أطاحت الضغوط الأميركية بالرئيس الأسبق بشارة الخوري عام 1952، وفرضت الفراغ الرئاسي لتمرير اتفاق الطائف بشروطها عام 1988.
وبينما ينهمك الاعلام بالترويج لسردية متطرفة حول مفهوم النصر والهزيمة، يغفل -عن سابق تصميم- أن السيطرة الأميركية، لم تعد قادرة على إنتاج الاستقرار الذي تحتاجه واشنطن. بعبارة أوضح: واشنطن باتت تحكم لبنان، لكنها غير قادرة على ضبطه، وهذا واقع ملموس منذ سنوات.
ما بعد السيطرة: حين تصبح الوصاية عبئًا
كل منظومة وصاية تحتاج إلى أدوات تمكنها من فرض قراراتها دون الحاجة إلى الاحتلال المباشر. فرنسا في الجزائر اعتمدت على طبقة موالية وإدارة بيروقراطية منضبطة، وبريطانيا في الهند استخدمت الشركات قبل المدافع، أما واشنطن في لبنان، فقد صنعت نظامًا قائمًا على ثلاث ركائز رئيسية: الاقتصاد كأداة إخضاع، تفكيك أي بدائل سياسية مستقلة وإعادة إنتاج السلطة بما يخدم مصالحها، ليس عبر الانتخابات فقط، بل من خلال ضبط ميزان القوى بين المكونات السياسية، بحيث تبقى أي محاولة "للتمرد" تحت سقف الممكن أميركيّاً.
السيطرة الأميركية اليوم أقوى من أي وقت مضى، لكنها في الوقت نفسه أكثر هشاشة، ولا يمكن اقتصار هذه المرحلة بالأشهر الأخيرة:
-فشل أدوات الضغط الاقتصادي: أرادت واشنطن أن يكون الانهيار الاقتصادي أداة لإخضاع الجميع، لكنه تحوّل إلى بيئة غير قابلة للضبط. الفوضى التي اعتُقد أنها ستحاصر المقاومة، باتت تهدد بنية الدولة نفسها، ومعها مصالح القوى الغربية.
-انكشاف أدوات النفوذ السياسي: التحالفات التي صنعتها واشنطن في لبنان، من مؤسسات "المجتمع المدني" إلى الوجوه الجديدة التي قُدِّمت على أنها مستقلة، لم تستطع تقديم بديل مقنع.
الحقيقة، أن واشنطن لا تخشى انتصار المقاومة عسكرياً بقدر ما تخشى أن يتحول نفوذها الحالي في لبنان إلى عبء استراتيجي. إذا استمر الانهيار، (ومروحة خياراته واسعة، ولا تقتصر على المستوى الاقتصادي، بل السياسي أيضاً، ومعالم حصوله جلية، مع مستوى الاحتقان لدى مختلف الطوائف) ستصبح الدولة اللبنانية غير قادرة على لعب الدور المطلوب منها في المنظومة الأميركية. وإذا اندلعت مواجهة شاملة، ستجد واشنطن نفسها في وضع يتطلب تدخلاً أوسع مما تستطيع تحمّله حاليًا، في ظل رغتبها بإعاة ترتيب أولوياتها بما يتناسب مع طموح الإدارة الجديدة. وبالتالي، إذا استمرت الفوضى دون انفجار، فستواجه واشنطن خطر تحوّل لبنان إلى ثقب أسود غير قابل للضبط، مما يدفعها للتخلي عنه لصالح قوى أخرى.
الولايات المتحدة دخلت مرحلة خطرة في إدارة نفوذها في لبنان: تملك ما يكفي من الأدوات لمنع سقوط النظام، لكنها غير قادرة على منحه الحياة. وقد تصبح الصورة قريباً بالنسبة إليها على هذه الشاكلة: لبنان لم يعد بلدًا يحكم، بل أزمة تُدار بلا أفق.
هذه ليست المرة الأولى التي تقع فيها قوة عظمى في هذا الفخ. هناك نماذج كثيرة لدول امتلكت نفوذًا واسعاً لكنها فشلت في تحويله إلى استقرار دائم، فانتهى بها الأمر إلى خسارة كل شيء:
الاتحاد السوفياتي في أفغانستان (1979-1989): بعد أن دخلت موسكو كابول بقوة السلاح، نصّبت حكومة حليفة، وضمنت ولاء الجيش، لكنها لم تستطع بناء نظام قادر على الصمود، فانتهى بها الأمر إلى الانسحاب تحت ضغط المقاومة الداخلية والإنهاك الاقتصادي.
فرنسا في الجزائر (1954-1962): رغم القوة العسكرية الفرنسية الهائلة، لم تستطع باريس خلق بديل سياسي عن جبهة التحرير الوطني، فتحولت السيطرة إلى عبء، وانتهى بها الأمر إلى الخروج الكامل.
واشنطن في العراق بعد 2003: بعد إسقاط صدام حسين، اعتقدت واشنطن أنها قادرة على بناء نظام ديمقراطي تحت وصايتها، لكنها فوجئت بأن أدواتها السياسية لم تستطع ضبط الواقع، فكانت النتيجة فوضى دفعتها إلى الانسحاب.
في كل هذه الحالات، لم يكن السؤال هو مدى قوة الدولة المسيطرة، بل مدى قدرتها على إنتاج نظام مستقر. وهذا هو مأزق واشنطن في لبنان اليوم: نفوذ بلا سيطرة، وتحكم بلا رؤية.
سقوط الوصاية أم سقوط الدولة؟
كل الدول التي واجهت فشل مشاريع الوصاية مرت بمرحلتين: مرحلة الأزمة القابلة للضبط (حيث تستمر القوة المسيطرة في إدارة الفوضى وفق إيقاع يناسبها) ومرحلة الفوضى الخارجة عن السيطرة (حين يصبح النفوذ نفسه عبئًا، وتفقد القوة القدرة على ضبط الأحداث).
لبنان الآن على الحافة بين المرحلتين. كل شيء يشير إلى أن مشروع الوصاية الأميركي لم يعد قادرًا على إعادة إنتاج نفسه كما فعل سابقًا، لكن هذا لا يعني أن البلد يتجه نحو التحرر، بل ربما نحو فراغ مدمر حيث تسقط الدولة قبل أن تسقط الوصاية.
في العراق، أدى هذا الفراغ إلى دخول قوى إقليمية جديدة فرضت معادلاتها. في أفغانستان، خلق انسحاب السوفيات انهيارًا كاملًا فتح الباب أمام الحرب الأهلية. في الجزائر، كان انهيار الاستعمار مقدمة لنظام سياسي استمر لعقود بعد ذلك.
لبنان الآن في قلب هذه الحسابات. لكنه أيضًا أمام لحظة حاسمة: هل يكون سقوط الوصاية مقدمة لاستقلال حقيقي، أم أنه مجرد خطوة نحو الفوضى التي تجعل أي استقلال مستحيلًا؟
الحقيقة التي رسخها التاريخ، ان الدول التي تمر بهذه المراحل غالباً ما تنزلق إلى الفوضى قبل أن تجد طريقها نحو الاستقرار. لكن هناك استثناءات. وإذا كان السيناريو الأميركي يقوم على مبدأ "إدارة الانهيار"، فالخيار الوحيد للخروج من هذه الحلقة هو قلب الطاولة قبل أن تُفرض شروط الاستسلام. أي عدم انتظار حل أميركي أو تسوية دولية: اذ أن أي مشروع إنقاذي يأتي برعاية أميركية سيكون مشروطًا بترسيخ وصايتها، لا إنهائها.
الواقع، أن اللحظة التي يعيشها لبنان ليست مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل هي لحظة إعادة تشكيل لموازين القوى. في مثل هذه اللحظات، هناك خياران لا ثالث لهما: إما أن تُكسر الوصاية الأميركية، أو أن يتحول لبنان إلى دولة فاشلة تمامًا غير قادرة حتى على خدمة المشروع الأميركي نفسه. والسؤال الحقيقي لم يعد: "متى يسقط النفوذ الأميركي؟"، بل: "متى يصبح هذا النفوذ عبئًا على نفسه، بحيث تضطر واشنطن إلى فك قبضتها؟". وهل تستطيع واشنطن تحمّل سقوط نفوذها في لبنان دون خسائر استراتيجية أوسع؟
المشكلة الحقيقية ليست في خسارة لبنان بحد ذاته، بل في تداعيات هذا السقوط على المشروع الأميركي الأوسع. كما قال مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، جيمي كارتر، زبغنيو بريجنسكي: "حين تفقد الولايات المتحدة القدرة على إدارة الأطراف، ستنهار مركزيتها تلقائيًا". تمامًا كما كان سقوط سايغون عام 1975 مؤشرًا على تراجع النفوذ الأميركي في آسيا، فإن تحرر لبنان من الوصاية سيكون بداية لانكماش النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
المعركة لم تُحسم بعد، لكن الخطأ الأكبر هو افتراض أن الوصاية قدرٌ لا يُكسر. وكما قال القيادي الشيوعي، أنطونيو غرامشي: "الأزمة تنشأ عندما يكون القديم يحتضر، والجديد لم يُولد بعد." لبنان يعيش هذه اللحظة، وما سيحدث بعدها قد لا يكون كما يريده الأميركيون، بل كما يفرضه الواقع على الأرض.