الأربعاء 19 شباط , 2025 08:10

بالأرقام والحسابات الخاطئة: تكلفة اغتيال السيد حسن نصرالله

في تاريخ الصراعات الكبرى، لم يكن الاغتيال مجرد تصفية جسدية، بل كان دومًا رهانًا استراتيجيًا على تغيير مسار الأحداث، ومحاولة لإحداث صدمة مدروسة، تفكك المنظومات المقاومة، وتعيد تشكيل الواقع. لكن، على مدار العقود، أثبت التاريخ أن عمليات الاغتيال لم تكن إلا استثمارات خاسرة، وأن فاتورتها الحقيقية كانت دائمًا أكبر بكثير مما توقع المخططون.

في جولة سريعة في كلفة الاغتيالات السياسية والمقاومة عالمياً، يمكن فهم كم كان الثمن باهظًا:عندما قررت واشنطن اغتيال الثوري المناضل تشي غيفارا، الرجل الذي أصبح رمزاً عالمياً للتمرد ضد الهيمنة، لم يكن الأمر مجرد قرار أمني، بل عملية عسكرية دقيقة. كلفت هذه العملية الملايين، حيث أُقيمت عمليات ملاحقة استخباراتية وتجميع معلومات، بما في ذلك تمويل عمليات التدريب والتسليح، لتأمين إسكات صوته. ورغم أن غيفارا قُتل في بوليفيا عام 1967، إلا أن أفكاره لم تمت بل تحولت إلى أيقونة ألهمت أجيالاً في كل من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. فقد شكلت فلسفته في النضال المسلح والخروج على الظلم مادة غنية لأحزاب المقاومة، وارتبطت رمزيته بشعارات الثوار ومظاهراتهم في العديد من البلدان.

ترك غيفارا أثراً عميقاً في الحركات الثورية في المنطقة، حيث تبنى العديد من الشباب أفكاره، مؤمنين بأن النضال المسلح هو السبيل الوحيد للتحرر. تجارب الثوار في كوبا، نيكاراغوا، ومناطق أخرى استلهمت من أساليبه وأفكاره.

من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، لم تكن تجربة غيفارا استثناءاً. عملية اغتيال باتريس لومومبا، الذي قُتل بترتيب من المخابرات البلجيكية وبتواطؤ أميركي، كانت مثالاً آخر على أن اغتيال القادة لا يلغي أثرهم السياسي، بل يؤسس لمراحل مقاومة أكثر عناداً. في جنوب إفريقيا، رغم أن نيلسون مانديلا لم يُغتل، إلا أن سنوات سجنه الطويلة كانت محاولة لخنق حركته، ومع ذلك، تحولت تلك السنوات إلى رافعة لقضية التحرر.

اغتيال أنطون سعادة مثال آخر على محاولات كسر البنية الفكرية لحركات التحرر. أُعدم في ليلة واحدة بعد محاكمة صورية، لكن الحزب الذي أسسه استمر لعقود بعده، وبقيت أفكاره حاضرة رغم كل الضربات.

في فلسطين، كان اغتيال أحمد ياسين درساً آخر في فشل الرهانات، فالقائد المقعد، الذي كان يعتقد أن غيابه سيكسر شوكة المقاومة، تحول إلى رمز اسطوري استنهض أجيالاً جديدة، وأعاد هندسة الصراع مع الاحتلال.

عندما قررت إسرائيل تنفيذ اغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد الأمة، السيد حسن نصر الله، لم يكن الأمر مجرد عملية قنص أو عبوة ناسفة توضع على جانب الطريق. بل كان استنفاراً استراتيجيًا هائلًا، تطلّب قصفاً جوياً مكثفاً بلغ حجمه 82 طناً من المتفجرات الأميركية الصنع. استخدمت هذه العملية قنابل ذكية من طراز GBU-31 وGBU-39، تُصنعها شركة بوينغ الأميركية. لنحلل الفاتورة:

GBU-31 JDAM تكلف الواحدة منها حوالي 25,000 دولار.

GBU-39 SDB تكلف بين 40,000 و50,000 دولار.

هذا يعني أن الكلفة الإجمالية لا تقل عن 5 إلى 10 ملايين دولار فقط للقنابل، دون احتساب تكلفة تشغيل الطائرات، الدعم اللوجستي، وتكاليف عمليات الاستخبارات والرصد والتخطيط، التي قد تتجاوز وحدها عشرات الملايين.

قد تبحث بين هذه الأرقام عن التكلفة المادية لعملية الاغتيال. وكم وحدة استخباراتية وأمنية وعسكرية جُندت إسرائيلياً وأميركياً لبلوغ الهدف. وقد يغرق الباحث عن الأجوبة بأعداد ضخمة تكفي لبناء دول بأسرها وانقاذ شعوب من أقدارها المشؤومة. لكن حقيقة الكلفة الاستراتيجية سيدركها المسؤولون الاسرائيليون والأميركيون قريباً جداً، بدءاً من يوم التشييع.

اذ أنهم لم يشتروا نصراً، بل استثمروا في صناعة جيل جديد، أكثر تصميماً، وأكثر شراسة وعناداً، وأكثر قناعة بأن معركة هذه الأمة مع الاحتلال لا تُحسم إلا بالدم والمقاومة. وكل قنبلة أُلقيت لم تنهِ مسيرة رجل، بل كانت توقيعاً جديداً على أن المشروع المقاوم سيولد في كل مرة بحجم أكبر وشرعية أوسع.

المسألة تتجاوز التكلفة المادية، إنها تعكس أزمة في الطرف المقابل، حيث غياب القادة الحقيقيين. إسرائيل والغرب اليوم يعانون من فراغ سياسي وفكري، فلا قادة يتمتعون بشرعية شعبية، ولا مشاريع تحمل رؤى تتجاوز المصالح الضيقة. على العكس، تشييع قائد مقاوم سيكون بمثابة استفتاء على الشرعية والمشروع. إنها لحظة تُعيد تعريف معاني القيادة، لحظة تكشف ضعف النقيض الذي يفتقر إلى رموز تلهم مجتمعاته أو تؤسس لرؤية تتجاوز الحسابات اللحظية.

هذا الكيان الذي جرب اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد عباس الموسوي، وأدرك ماهية المرحلة التي صنعها السيد حسن نصرالله، يعيد صياغة اخفاقاته مجدداً. اذ أن المشروع الذي يستمد شرعيته من بيئة حاضنة واعية لطبيعة الصراع، لا يقبل الفراغ، لأنه ليس حزباً سياسياً يمكن أن يدركه الأفول، بل مقاومة مستمرة مع استمرار وجود أسبابها ودوافعها.

هذه الفاتورة التي قد تناقشها المؤسسة العسكرية الاسرائيلية انطلاقاً من ضرورة تعويض خسائرها المالية، ووجوب اعادة ملء مخازنها، ستكون عبئاً على المؤسسة الأمنية والمنظومة السياسية بأسرها، لأنها لم تُدفع بعد، وسيكون يوم التشييع، الدفعة الأولى على الحساب. فالأمين العام شهيداً في نعشه أكثر حضوراً وأشد بأساً من السيد حيّاً، لأن محاربة المشروع أسهل من القضاء على المشروعية.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور