الأربعاء 16 تموز , 2025 09:47

إيران: إدارة مرنة للتصعيد وإعادة التوازن للمشهد الإقليمي

إيران كسرت هيبة العدو وفرضت توازن الردع

استطاعت إيران احتواء صدمة الضربات الأولى التي شنّها الكيان المؤقت عليها، والتي أراد بها العدو إرباك القيادة والسيطرة الايرانية تمهيداً للشل التام مرتكزاً على الأعمال التخريبية في الداخل عبر عملاء الموساد ومن جُند لخدمة أهداف العدو. وانتقلت إيران من مرحلة التنظيم والترتيب عبر إجراءات أمنية داخلية وتعيينات سريعة ومنظمة لبدلاء عمن استشهدوا، إلى نقل الإرباك الموجه، نحو العدو من خلال عمليات صاروخية محدودة العدد لكن متصاعدة لناحية النوع.

ويعد التكتيك الإيراني إدارة مرنة للتصعيد خلال المعركة، وهو أسلوب يعتمد على الموازنة في استخدام القوة من خلال رفع أو خفض حدة قوتها بحسب مستوى التصعيد لتحقيق توازن. ومن خلاله الإدارة المرنة حققت إيران هدفها الرئيسي في صد العدوان ومنعه من تحقيق منجز وفرض نوعاً من التوازن كاد أن ينقلب لمصلحتها لولا الجهد الأميركي المنصب لإيقاف الحرب فكانت عملية استهداف المنشآت النووية مدخلاً لوقف التصعيد.

تتضح تدريجيًا في الكيان حقيقة حجم الخسائر، خاصة التي طالت المقرات الاستراتيجية أو العصب الأمني والعسكري له.

الغموض الاستراتيجي

تصر الإدارة الأمريكية وبشكل شبه يومي على أنها قد حققت أهدافها من الضربات التي شنّتها على منشآت إيران النووية، لكن هذا الإصرار بدأ يخلق قلقاً لدى أوساط أمنية وعسكرية عمّا إذا كان مجرد تغطية على الفشل، فما سرب من تقرير لوكالة الاستخبارات الداخلية في أميركا عن فشل تحقيق أهداف العملية، دفع الرئيس الأميركي ترامب وفريق عمله إلى زيادة حجم الخطابات المؤكدة على النجاح، لكن وبشكل تدريجي يزداد الكلام الإعلامي العالمي ولدى الكيان تحديداً عن غموض بات يلف برنامج إيران النووي.

أمام هذا الغموض والريبة منه، أكد المسؤولون في إيران أن المنشآت المستهدفة تضررت بشكل كبير لكن الحديث عن سلامة اليورانيوم المخصب أو الكميات الموجودة والمخبأة في أماكن غير معلن عنها لم يتطرقوا له، أما نتنياهو وخلال زيارته لواشنطن أكد أن ايران ما تزال تمتلك يورانيوم مخصب وأن برنامجها النووي ما يزال قائماً بالقول: "سنتعامل مع البرنامج النووي الإيراني كما لو كان سرطانًا، يحتاج إلى مراقبة مستمرة وربما علاج مجدداً ونعتقد أننا نعرف مكان اليورانيوم الإيراني المخصب، إنه موجود نوعًا ما تحت الأرض في مكان محدد".

لكن التهديد الحقيقي لم يتوقف عند ما إذا كان البرنامج النووي ظلّ سليماً، بل انتقل إلى البعد النفسي والاستراتيجي بفعل ما أظهرته إيران من قدرات خلال الحرب وكسر قدرة العدو في الهيمنة على التصعيد.

فرض توازن ردعي

تفرض الإدارة المرنة للتصعيد إن حُققت أهدافها توازناً ردعياً أو توازن رعب على الطرف الآخر، وخلال المواجهة بين إيران والكيان كانت الصواريخ الإيرانية تتساقط في الداخل المحتل وتحدث دماراً غير مسبوق في البنى التحتية العسكرية والأمنية، وبعد الحرب استمر المسؤولون الرسميون والقادة العسكريين في إيران بإطلاق تصريحات تهديد للكيان تحذره من شن عدوان مجدداً على الأراضي الإيرانية وأنه سيلاقي رداً أكثر حزماً وقوة إزاء ذلك، وكان تلميح وزير الخارجية الإيراني عراقجي بأن إيران ليست لبنان، له مدلولات هامة بأن محاولة الكيان فرض قواعد لعبة جديدة على إيران يكون فيها مهيمناً على الردع أمر غير وارد بل سيقابل برد قد يؤدي إلى مواجهة مفتوحة في حال حصول ذلك. ومنذ توقف الحرب حتى اليوم لم يقم الكيان بأي خطوة عسكرية، فحسابات الحرب أصبحت أكثر تعقيداً بعد إظهار إيران جزءاً من قدراتها العسكرية الفعالة خلال الحرب.

كسب وقت للتحضير

ومن نتائج الإدارة المرنة للتصعيد والمرتبطة بفرض توازن ردعي، أنها تخلق لدى الطرف المقابل- الكيان المؤقت- حالةً من الانتظار والتردد، وهذان العاملان يكسبان إيران قدرةً على تحقيق مكاسب استراتيجية ووقتاً- لا شك أنه ثمين- لترتيب قواتها وقدراتها العسكرية وتعزيز الأمن الداخلي نظراً لكثرة الخروقات التي أظهرتها الحرب.

كلام نتنياهو عن مراقبة وربما علاج البرنامج النووي، يظهر أن نوايا العدو العدوانية مستمرة تجاه إيران، وربما زيارة نتنياهو لواشنطن ولقاءاته المتعددة مع ترامب هي لمناقشة اليوم التالي للمواجهة الأخيرة، لكن ومما لا شك فيه أن الإرباك لدى صناع القرار في الكيان والإدارة الأمريكية قد وقع، فالتكلفة المتوقعة لحرب مع إيران عالية في ظل الحروب المتعددة الجبهات التي يواجهها العدو وفي ظل انهماك الإدارة الأمريكية في معالجة القضايا العالمية كالصين وروسيا.

تآكل إرادة العدو

الإدارة المرنة للتصعيد خلقت خوفاً لدى العدو من الإقدام على مغامرة أخرى، والخوف هو بفعل الدمار الكبير الذي احدثته الصواريخ، ومع الوقت يتحول الخوف إلى شلل في قرار العدو، فيعلق في حسابات التكلفة التي شهد بعضها، ويكمن الخطر هنا في أن هذا الشلل يعيد الحركة لقوى محور المقاومة ويزيد من ثباتها.

تغيرات محور المقاومة

كانت الحرب على إيران تهدف إلى إسقاط النظام فيها، وبسقوطه يصبح المحور هشّاً سهل الكسر، لكن فشل الأهداف الإسرائيلية الأمريكية عزز مواقف وتموضعات قوى المحور.

إذ شهد لبنان في الأسبوعين الأخيرين تصعيداً اسرائيلياً عالي المستوى متزامناً مع تهويل كبير بالحرب بفعل ما سيأتي به المبعوث الأميركي إلى لبنان من رسائل، وقبل قدومه سربت بعض ما في رسائله وهي شروط محددة بإطار زمني (شهرين) أمام الدولة اللبنانية لنزع سلاح حزب الله، لكن وخلال هذه الفترة ثبت الحزب على موقفه من العدوان الإسرائيلي والسلاح عبر تصريحات أدلى بها مسؤولوه وعلى رأسهم أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم تؤكد أن لا تسليم للسلاح وأن المقاومة على جهوزية عالية للحرب.

وعكس ما كان متوقعاً خاصةً من وكلاء الإدارة الأمريكية في لبنان، عبّر برّاك عن رضا من الرد اللبناني على ورقته نافياً الكثير مما سرب قبل قدومه إلى لبنان، مؤكداً على أن معالجة مسألة سلاح المقاومة قضية لبنانية لا أمريكية.

ربما يكون الموقف الأميركي الذي عبّر عنه برّاك خديعة كما جرى في الأيام الأخيرة قبل الحرب على لبنان، حينما كانت الجهود الدولية لوقف الاشتباك بين المقاومة والكيان قريبة النجاح لكن اغتيال السيد الشهيد حسن نصر الله أفشلها، أو مثل ما كانت المفاوضات غير المباشرة بين إيران والإدارة الأمريكية سارية لكن العدو أقدم على قصف إيران، لكن انتصار إيران في الحرب على الكيان عززّ بشكل كبير موقف المقاومة في لبنان وزاد من عزيمتها على المواجهة وتكرار أسلوب المباغتة والخديعة زاد من حذر قوى المحور لتعطيل مفاعيله إن حصل.

أما على صعيد اليمن، فإن القوات العسكرية فيه أكدت استمرار مساندتها لغزة من خلال عمليات عسكرية ارتفعت وتيرتها بعد انتهاء الحرب على إيران، حتى أنها قامت بإغراق سفينتين في البحر الأحمر، وهذا إن دل على شيء فهو أن انتصار إيران زاد من عزيمة اليمن ومن تمسكه بموقف المواجهة.

أزمة الخيارات الأمريكية-الإسرائيلية

إن توقف الحرب على إيران كان بسبب الأذى الذي تلقاه الكيان بفعل الهجمات الصاروخية النوعية والإدارة المرنة للتصعيد والتماسك الشعبي الداخلي المؤيد للجمهورية، وما إيران عليه اليوم من وقف إطلاق نار لم يخرق من قبل الكيان يمكن اعتباره تحضيراً لمعركة مستقبلية، لكن توقف العمليات الإسرائيلية وعدم التعامل مع إيران كساحة مشابهة للبنان، ما هو إلا بفعل التعقيد في عملية صنع القرار في الكيان، فالزيادة في حسابات التكلفة لأي معركة أخرى، وطغيان هذه الحسابات على الأهداف لدى العدو، يجعل قيادته مشلولة غير قادرة على حسم الأمر والتوجه.

لم تكن الحرب بين الجمهورية الإسلامية والكيان المؤقت معركة عسكرية بحتة، بل اختبار شامل للردع على مستوى الإقليم، استطاعت إيران اجتيازه بنجاح من خلال الإدارة المرنة في التصعيد واعتماد نمط قوة مناسب للمعركة كسرت محاولات العدو في الهيمنة على التصعيد وتحقيق منجزات استراتيجية، وبالرغم من أن نتائج المعركة لم تحسم، لكنها تعيد رسم خطوط التوازن في المنطقة بالتدريج وهو العامل الأكثر تأثيراً في ترميم ما أصاب محور المقاومة من خسائر.


الكاتب: محمد حمدان




روزنامة المحور