الأربعاء 19 آذار , 2025 03:14

تفجيرات أجهزة "البايجر" واللاسلكي في لبنان من منظور القانون الدولي

جهاز بايجر

أجمعت معظم دول وشعوب الأرض، كما الهيئات والمؤسسات الدولية المعنيّة بحقوق الإنسان وتطبيق القوانين والتشريعات ذات البُعد الإنساني والأخلاقي، على إدانة ما ارتكبته "إسرائيل" من جريمة كبرى وغير مسبوقة، من خلال تفجيرها المُتزامن، بتاريخ 17و18 أيلول/ سبتمبر 2024، لآلاف من أجهزة النداء "البايجر" وأجهزة اللاسلكي، التي كانت بحوزة عناصر من حزب الله اللبناني، الذين كانوا يعملون ضمن أجهزة الحزب العسكرية والمدنية، في عدّة مناطق لبنانية، وصولاً إلى سوريا.

ولم تشذ عن مسار الإدانة الدولي للجريمة الإسرائيلية سوى الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية السائرة في الرّكاب الأمريكي منذ عقود طويلة. والأسوأ أن الأميركيين وقادة الدول الخاضعة لهيمنتهم لم يكتفوا برفض الإدانات العالمية لجريمة تفجير أجهزة البايجرز وأجهزة اللاسلكي؛ بل هم أشادوا بتلك الجريمة وحاولوا تبريرها واصطناع مشروعية قانونية وسياسية مزيّفة لها. فهل تمتلك "إسرائيل" أي مشروعية قانونية أو سياسية، أو حتى عسكرية (حربيّة) لعملية تفجير الأجهزة، وهي التي لم تُبالِ يوماً بالقوانين أو المعايير الإنسانية والأخلاقية في إطار سعيها لتحقيق هدفها المركزي بتكريس احتلالها لكلّ فلسطين والهيمنة الكاملة على الدول العربية والإسلامية؛ وهي المستمرّة في هذا المسار العدواني المُنفلِت منذ ما قبل العام 1948 وحتى اليوم؟

 

 

تفجير "البايجر" في القانون الإنساني الدولي

وفقًا للقانون الإنساني الدولي، "يحظر في جميع الظروف استخدام أي لغم أو فخ أو جهاز آخر مُصَمّم للتسبّب في إصابة زائدة أو مُعاناة غير ضرورية". وحسب القانون، يشير مصطلح "أجهزة أخرى" إلى "الذخائر والأجهزة التي تُزرَع يدويًا، بما في ذلك العبوات الناسفة التي صُمّمت للقتل أو الإصابة أو التدمير، وتُفعّل يدويًا أو بالتحكّم عن بُعد أو تلقائيًا بعد فترة من الوقت". ومع ذلك، يحظر القانون الدولي أيضًا الاستهداف المُتعمّد للمدنيين، وهو الأمر الذي لم يمنع "إسرائيل" أبداً من القيام بذلك.

إن العدوان الإسرائيلي الذي اشتمل على تفخيخ وتفجير أجهزة "البايجر" في لبنان يُثير انتهاكات كبيرة للقانون الدولي، حيث يُعَدّ هذا الهجوم عدواناً على الدولة اللبنانية وخرقاً لسيادتها. وقد أكّدت مصادر أمنية لبنانية أنّ جهازَي "الموساد" و"أمان" الإسرائيليين هما وراء هذه الضربة العدوانية، إذ استخدمت "إسرائيل" شركة عالمية، وجهازاً مدنياً، مع تحكّم بالعالم السيبراني، واتّخذت قراراً بالقتل الجماعي المُتعمّد.

كذلك، تخطّت "إسرائيل" في هذا العدوان كلّ القواعد المُحَرّمة في الحروب الأمنيّة، وارتكبت انتهاكات جسيمة لقوانين الحرب، ومنها انتهاك مبدأ حماية المدنيين، ومبدأ عدم المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية..

لقد أتى مبدأ "حَظْر قتل المدنيين" واضحاً في القانون الدولي، الذي يعتبر أنّ أيّ هجوم مُتعمّد على المدنيين، بما في ذلك استخدام أساليب غير تقليدية، مثل انفجارات أجهزة "البايجر"، محظور، ويُعدّ جريمة حرب. ويمكن تصنيف الاستهداف المُتَعَمّد للمقاتلين الذين لا يُشاركون في الأعمال العدائيّة على أنه جريمة حرب أيضاً.

أما إذا كان قَتْل المدنيين والتسبّب بأضرار لهم وعدم التمييز بينهم وبين المُقاتلين، قد حصل على نطاق منهجي واسع، فيمكن أن يَرقى إلى مستوى الجريمة ضدّ الإنسانية.

وبما أنّ القانون الدولي ينصّ على تحميل الدول المسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي الإنساني التي ترتكبها قوّاتها المسلّحة أو غيرها من الوكلاء، ويؤكّد أنّ المسؤولية الجنائية فردية، فإنّ المسؤولين الإسرائيليين الذين اتّخذوا القرار ونفّذوا هذا العدوان يُعَدّون مسؤولين جنائياً عن هذا الفعل.

مواقف المنظّمات والهيئات الأمميّة

أعلنت منظّمة "هيومن رايتس ووتش" أن تفجيرات أجهزة الاتصال اللاسلكية في لبنان تُعَرّض حياة المدنيين لخطر جسيم وتنتهك قواعد القانون الدولي. وأشارت إلى أن "استخدام الأغراض المدنيّة اليومية كأجهزة متفجّرة يُعَرّض حياة المدنيين لخطر جسيم وينتهك قوانين الحرب".

وشدّدت مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمنظّمة، على أن "القانون الإنساني الدولي العرفي يحظر استخدام الفخاخ المتفجّرة، من أجل تفادي تعريض حياة المدنيين لخطَر شديد، والتسبّب في المشاهد التي ما تزال تتكشّف اليوم في جميع أنحاء لبنان".

فيما قالت منظمة العفو الدولية إنه يجب إجراء تحقيق دولي لمحاسبة مُرتَكبي التفجيرات الجماعية المُتزامنة التي استهدفت أجهزة إلكترونية في لبنان وسوريا، والتي أسفَرت عن إصابة أكثر من 2931 شخصًا ومقتل ما لا يقل عن 37، من بينهم أربعة مدنيين على الأقل.

 وأضافت أنه إذا ثَبتَت مسؤولية "إسرائيل"، فإن هذه الهجمات تكون قد وقعت في سياق نزاع مسلّح قائم. تُشير الأدلّة إلى أنّ أولئك الذين خطّطوا لهذه الهجمات ونفّذوها لم يتمكّنوا من التحقّق من هويّة الأشخاص الآخرين المتواجدين في محيط تفجير الأجهزة، والذين سيتضرّرون وقت حدوث الانفجار، أو حتى ما إذا كان المُقاتلون فقط قد حصلوا على “أجهزة البايجر” واللاسلكي. بالتالي، نُفّذت هذه الهجمات بشكل عشوائي، ما يجعلها غير قانونية بموجب القانون الدولي الإنساني، وينبغي التحقيق فيها باعتبارها جرائم حرب. كما انتهكت الهجمات أقلّه الحق في الحياة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، الساري في حالات النزاع المسلّح، والأرجح حقوقًا أخرى من حقوق الإنسان، بحسب الآثار المختلفة للهجوم على اللبنانيين وحياتهم اليوميّة.

من ناحيته، دعا المفوّض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، فولكر تورك، إلى إجراء تحقيق مستقل في الأحداث المحيطة بانفجار أجهزة الاتصال اللاسلكي. وقال تورك في بيان إن الاستهداف المُتزامن لآلاف الأفراد، بدون معرفة من كان يحمل الأجهزة أو مكانها، ينتهك القانون الدولي لحقوق الإنسان، وربما القانون الإنساني الدولي.

وأضاف: "يجب إجراء تحقيق مستقل وشامل وشفّاف بشأن ظروف هذه الانفجارات الجماعيّة. ويجب مُحاسبة أولئك الذين أمَروا بمثل هذه الهجمات ونفّذوها".

وفي هذ الصدد، رأى مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبعض المنظمات الحقوقية، أن تلك الهجمات كانت "عشوائيّة"، لأنه "يكاد يكون من المستحيل معرفة من كان يحمل الأجهزة أو أين كانت عندما انفجرت".

أكاديميّون يدينون الجريمة.. وآخرون يُبرّرون!

قال المحامي البريطاني جيفري نايس، الذي حاكَم الرئيس الصربي السابق، سلوبودان ميلوسيفيتش، بشأن تفجيرات أجهزة البايجر: "من الواضح تماماً أن هذه جريمة حرب.. ويجب علينا أن نقوم بتسميتها كما هي".

بدورها، اعتبرت مي السعدني، التي تَرأس معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، وهو مركز أبحاث مقرّه واشنطن، أن ما حدَث كان "هجوماً عشوائياً محظوراً بموجب القانون الدولي". وقالت: "كان حاملو أجهزة النداء مُنتشرون في مراكز التسوّق والشوارع المُزدحمة والمباني السكنيّة والمستشفيات والمدارس".

كما أدانَ عدد من خبراء حقوق الإنسان الأمميين، في بيان، "التلاعب الخبيث" بأجهزة البايجر واللاسلكي لتنفجر بصورة مُتزامنة عبر لبنان وسوريا، ووصفوا ذلك بأنه "انتهاك مُرعِب" للقانون الدولي.

وقال الخبراء الأمميّون المستقلّون: "إن هذه الهجمات تنتهك الحق الإنساني في الحياة، في غياب أي مؤشّر على أن الضحايا شكّلوا تهديداً مُميتاً وشيكاً لأيّ شخص آخر في ذلك الوقت". وأشاروا إلى أنّ مثل هذه الهجمات تتطلّب تحقيقاً سريعاً ومستقلًا لإثبات الحقيقة وتمكين المساءلة عن جريمة القتل. وأعرَبوا عن خالص تضامنهم مع ضحايا الهجمات. وقالوا إن مثل هذه الهجمات يمكن أن تشكّل "جرائم حرب من القتل ومُهاجمة المدنيين وشن هجمات عشوائية، بالإضافة إلى انتهاك الحق في الحياة". وأوضحوا أن القانون الإنساني يحظر استخدام الأفخاخ المتفجّرة على شكل أشياء محمولة غير ضارّة على ما يبدو، حيث تمّ تصميمها وبناؤها خصّيصاً بالمتفجّرات؛ وقد يشمل هذا جهاز استدعاء مدَني مُعَدّل.

وحذّر هؤلاء الخبراء من أن "ارتكاب العنف بهدف نشر الرّعب بين المدنيين، بما في ذلك ترهيبهم أو ردعهم عن دعم الخصم، يُعَدّ جريمة حرب أيضاً. الحياة اليومية في لبنان يطغى عليها مناخ الخوف". وحثّوا على إجراء تحقيق سريع وفعّال وشامل ونزيه وشفّاف في الهجمات، وعرَضوا المساعدة في هذا الصدد. ودعوا الدول إلى ضرورة أن تُقَدّم إلى العدالة من أمَروا بهذه الهجمات ونفّذوها، بما في ذلك من خلال مُمارسة الولاية القضائية العالمية على جرائم الحرب.

من جهته، رأى المرصد الأورومتوسطي أنَّ ما قامت به "إسرائيل" يُشكِّل انتهاكاً صارخاً للقانون الدّولي الإنساني، الذي يَحْظر استهداف المدنيين وممتلكاتهم، ويفرض على الأطراف المُتَحاربة التمييز بين المدنيين والمُقاتلين في كلّ الأوقات. وهذا ما تؤكّد عليه القواعد العرفيّة للقانون الدولي الإنساني، واتفاقيّة جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين، ولوائح اتفاقيّة لاهاي الرابعة، والمادّة 48 من البروتوكول الإضافي الأوّل.

كما أكَّد المرصد أنّ القانون الدولي الإنساني يَحْظر الهجمات العشوائية التي لا تُمَيّز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، بما في ذلك الهجمات التي لا تستهدف أهدافاً عسكرية محدّدة، أو التي تستخدم وسائل أو أساليب قتال غير قادرة على توجيهها نحو هدف عسكري محدّد.

وشدّد المرصد على أنّ استخدام الأشراك الخداعيّة المعروفة بـ booby traps ، انتهاك للقانون الدّولي الإنساني العرفي الذي يَحْظر استخدام هذه الأشراك في القاعدة 80 منه، والتي تنص صراحةً على أنّه "يُحْظر استخدام الأشراك الخداعية المتّصلة أو المُترافقة على أيّ نحوٍ مع أشياء أو أشخاص مؤهّلين لحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني، أو أشياء قد تجتذب المدنيين."

وأشار المرصد إلى أنّ هذه الانتهاكات تشكّل كذلك خرقًا جسيمًا لحقوق الإنسان، حيث شملت جرائم قتل غير قانونية. كما تمّ استخدامها كأداة لتحقيق أهداف سياسية، ممّا يتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان التي تَحْظر العنف ضدّ الأفراد غير المتورّطين في النزاع، وتفرض عدم تعريض سلامتهم الشخصيّة والسلامة العامّة للخطر.

في المقابل، أصرّ بعض الأكاديميين الغربيين على أن الانفجارات كانت "مُحَدّدة بدقّة"، لأنّ الأجهزة "تمّ توزيعها على أعضاء حزب الله"؛ إذ زَعمت لوري بلانك، الأستاذة في كليّة إيموري للقانون في أتلانتا، والمتخصّصة في القانون الإنساني الدولي وقانون الصراع المسلّح، أن قوانين الحرب "لا تَحْظر استخدام الفخاخ المتفجّرة بشكل مباشر، لكنّها تفرض قيوداً عليها".

ونَبّهت إلى أنها تعتقد أن الهجوم "كان قانونياً على الأرجح بموجب القانون الدولي"، موضحة أن الفخاخ المتفجّرة "يمكن استخدامها لاستهداف قوّات العدو، أو استخدامها بالقرب من هدف عسكري"!

وفي ذات المنحى، رأى الأستاذ في كليّة "إس جيه كويني" للقانون بجامعة يوتا، آموس جيورا، أن الضربات "مُبَرّرة في سياق الدفاع عن النفس"، لكنّه أقرّ بـ"مخاطر الأضرار الجانبية" التي تطال مدنيين؛ وقال: "لا يُحدّد القانون الدولي رقمًا لما هو مشروع أو غير مشروع للأضرار الجانبية"، مُردِفاً: "إن الواقع المأساوي للأضرار الجانبية هو أنّ الأبرياء سيتعرّضون للأذى ويُقْتَلون"!

خلاصة

ليس من شك في أن الكيان الإسرائيلي قد تأسّس على دوس القانون الدولي الإنساني والضوابط الأخلاقية التي التزَمت بها الدول والمجتمعات البشرية منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولو بحدودها الدنيا.

لقد "اشتهرت" "إسرائيل" بأنها "الدولة" الأولى على مستوى الاستهانة بالقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية، وتحديداً فيما يخص احتلال الأرض وارتكاب كلّ أنواع الجرائم بحقّ الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المجاورة؛ وكلّ ذلك بذريعة حماية أمنها من "التهديدات الوجودية"، والدفاع الاستباقي عن الحضارة الغربية من "الخطر الإسلامي الزاحف"!

ومن ضمن الجرائم الإسرائيلية التي تدخل ضمن السياق المذكور، كانت جريمة تفجير أجهزة "البايجر" وأجهزة اللاسلكي في لبنان في أواسط أيلول / سبتمبر من العام الماضي. وهي الجريمة التي أودَت بحياة العشرات من الأفراد المُنتمين لحزب الله وإصابة الآلاف، ومن بينهم المئات من المدنيين.

وكما تبيّن آنفاً، فإن جريمة تفجير الأجهزة لا تستند إلى مشروعية قانونية أو عملياتيةّ (حربيّة)؛ فضلاً عن أن "إسرائيل" لا تتحرّك ضمن الأطر القانونية أو الأخلاقية أساساً، إلّا في حدود ما يخدم صورتها الخارجية المزيّفة، والتي لا يُصدّقها أحد في العالم سوى الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية، وذلك لدوافع سياسية وأمنية، أو إيديولوجية!

وعليه، فإنّ على الدول أو القوى المعنيّة بالمواجهة المفتوحة مع تحالف الشرّ الأمريكي- الإسرائيلي في المنطقة، وخاصة الجهات الحزبية والأهلية والرسمية اللبنانية، أن تُتابع هذه القضية أو الجريمة الكبرى، بالسّبل والطرق القانونية والدبلوماسية والشعبية كافة، وتشكيل هيئة خاصة لتقديم دعاوى للمحاكم الدولية ذات الصلة، بحق المسؤولين الإسرائيليين المباشرين وغير المباشرين عن تفجيرات أجهزة البايجر واللاسلكي في لبنان، وصولًا ربما إلى فتح كلّ الملفّات المتعلّقة بجرائم مُشابهة لقادة الكيان الإسرائيلي، وبمفعول رجعي، ومن بينهم الذين تمّت إدانتهم من قِبَل محكمة العدل الدولية قبل أشهر، وفي طليعتهم المسؤول الأوّل عن تفجيرات "البايجر" واللاسلكي، رئيس حكومة الكيان، الإرهابي بنيامين نتنياهو، ورئيس جهاز الموساد الحالي دافيد برنياع، وقادة سابقين لهذا الجهاز، ولجهاز "أمان".


الكاتب: حسن صعب

الكاتب:

حسن صعب

كاتب وباحث سياسي




روزنامة المحور