الخميس 20 آذار , 2025 02:42

العلاقات الخارجية السورية: الانكفاء والتوجه نحو الغرب

الجولاني وعلاقاته الخارجية

تعتبر إعادة بناء العلاقات الخارجية لسوريا أمراً بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار والتعافي الاقتصادي. وتضع الإدارة السورية الجديدة الأولوية لإعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة وأطراف إقليمية، بهدف رفع العقوبات وإطلاق جهود إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد. كما أن التهديدات الجيوسياسية دفعت الحكم الجديد إلى الاحتفاظ بعلاقة وثيقة ومميزة مع قطر كشريك مالي وسياسي ومع تركيا كشريك أمني ودفاعي، والإبقاء على هامش من المناورة بين المصالح الروسية والأمريكية.

التوجه غرباً

أظهر الجولاني ميلًا للتوجه غرباً، دون الانخراط بالمحاور حتى الآن وهي عملية ستمثل إعادة ضبط تاريخي للدولة السورية في المعادلة الجيوسياسية الدولية. يأتي هذا التوجه مدفوعاً باعتبارات يبدو أنه تم التفكير فيها، أبرزها:

- موازنة النفوذ الروسي والإيراني: الحد من النفوذ التاريخي لروسيا وإيران في مؤسسات الدولة السورية.

- رفع العقوبات الاقتصادية: كضرورة لا مفر منها لإعادة بناء البلاد وبالتالي استقرار نظام الحكم الجديد. رفع العقوبات هو شرط أساسي لتحريك عجلة الاقتصاد السوري، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتحسين الأوضاع المعيشية للشعب.

- التفاهم مع الولايات المتحدة: تقدير الشرع بأن التفاهمات مع الولايات المتحدة ستمثل مفتاحًا لتطوير العلاقات مع أوروبا ومع غالبية دول المنطقة العربية، مما سيرسخ شرعية النظام الجديد على المستوى الدولي. العلاقات الجيدة مع الولايات المتحدة يمكن أن تفتح الباب أمام تحسين العلاقات مع الدول الغربية والعربية الأخرى، وتعزيز مكانة سوريا في المجتمع الدولي.

العلاقات مع الولايات المتحدة: مسار تدريجي

تركز السياسة الأمريكية تجاه سوريا على قضايا وأجندات مختلفة استراتيجية وأمنية، في مقدمتها أمن "إسرائيل" وضمان أن سوريا لن تكون بيئة لأنشطة أو مجموعات تستهدف دولة الاحتلال، وإنهاء الوجود الإيراني في سوريا، واحتواء خطر تنظيم داعش. هذه الأجندة الأمريكية تعكس أولويات واشنطن في المنطقة، والتي تعتبر أنه يجب على الإدارة السورية الجديدة أن تأخذها في الاعتبار في سياستها الخارجية. ستستمر الولايات المتحدة بالضغط على القيادة السورية الجديدة حتى يتكامل توافقها مع مصالح المنظومة الغربية، وسوف تستمر واشنطن باستخدام ورقة التهديد بعدم الاعتراف بالنظام الجديد ومحاصرته بالعقوبات. من المتوقع أن يستمر تقدم العلاقات وفق مبدأ خطوة مقابل خطوة. مسار العلاقات مع الولايات المتحدة سيكون تدريجيا، ويعتمد على مدى استجابة الإدارة السورية الجديدة للمطالب الأمريكية، وتقديم ضمانات كافية بشأن القضايا الأمنية والإقليمية.

روسيا: الحفاظ على النفوذ والبحث عن بدائل

يؤمّن الوجود الروسي في سوريا ورقة تفاوضية مهمة بيد الإدارة الجديدة، في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة والدول الأوروبية خاصة في مسألة العقوبات الاقتصادية. روسيا ستكون خياراً بديلاً عن الغرب حال استمرار العقوبات. بناء تفاهمات مع موسكو يساعد الإدارة الجديدة في احتواء بعض المواقف العدائية المحتملة. العلاقات مع روسيا تظل مهمة لسوريا، ويمكن أن توفر بديلاً استراتيجياً في حال استمرار الضغوط الغربية.

تسعى روسيا للحفاظ على علاقات جيدة مع دمشق حفاظاً على وجودها العسكري في قاعدة حميميم وميناء طرطوس، وهو تواجد يقع في قلب العقيدة البحرية الروسية. الوجود العسكري الروسي في سوريا يمثل مصلحة استراتيجية لموسكو، ومن غير المرجح أن تتخلى عنه بسهولة.

تركيا: التحالف والمصالح المشتركة

تمر سوريا بمرحلة انتقالية بين نهاية النفوذ الإيراني وصعود النفوذ التركي. من المتوقع أن تواصل القيادة الجديدة في سوريا تعزيز العلاقات مع أنقرة، خاصة وأن أهداف "إسرائيل" الإقليمية تضع الإدارة السورية في معادلة لا يمكنها فيها التصدي للتهديد الإسرائيلي دون الاستعانة بحليف استراتيجي مثل تركيا. التحالف مع تركيا يمكن أن يوفر لسوريا عمقاً استراتيجياً في مواجهة التهديدات الإقليمية، خاصة من إسرائيل.

حققت تركيا مكاسب استراتيجية في الملف السوري، وفرضت موقعها كفاعل رئيسي في تشكيل مستقبل سوريا. تتلخص مصالح أنقرة الجيوسياسية في سوريا في إضعاف المشروع الانفصالي الكردي إقليمياً، وترويض نفوذ إيران، وترسيم الحدود البحرية مع سوريا، وتعزيز الروابط التجارية والأمنية، وترتيبات عودة اللاجئين. المصالح التركية في سوريا متعددة ومتشابكة، وتشمل الجوانب الأمنية والاقتصادية والجيوسياسية.

إيران: تجنب العداء والإبقاء على التوتر

من المرجح أن تظل العلاقات بين دمشق وطهران يخيم عليها التوتر في الأجل القريب. يتعارض مسار إيران مع أولويات الإدارة السورية الأساسية المتمثلة في بناء تفاهمات مع الولايات المتحدة وتعزيز العمل مع تركيا والسعودية واحتواء العداء الإسرائيلي. العلاقات مع إيران تمثل تحدياً للإدارة السورية الجديدة، بسبب تعارض المصالح، والضغوط الغربية. من خلال عنصري الخطاب والأداء يمكن الافتراض بقوة أن الإدارة السورية الجديدة تحرص بناءً على نصائح تركية ومطالب قطرية على تجنب العداء الصريح مع طهران وابقائه ضمن الخطاب، لإدراك الشرع وحلفائه أن التعامل مع إيران يتطلب سياسة حذرة ومتوازنة.

الدول العربية: تفادي أخطاء الماضي

تتبنى الإدارة السورية استراتيجية عربية تقوم على بناء علاقات مميزة، والهروب من فخاخ الاستقطاب، وتجنب الصدام مع أي من القوى الإقليمية. سنشهد توجهاً سورياً نحو توثيق العلاقات مع السعودية، ومواصلة التعاون مع قطر، والاهتمام بالعراق والأردن ولبنان كدول جوار. إعادة بناء العلاقات مع الدول العربية هو أمر ضروري لعودة سوريا إلى الحضن العربي، والاستفادة من الدعم العربي في إعادة الإعمار والتنمية. ما زال يخيم على موقف الإمارات ومصر مزيج من التوجس والعداء، ومن المرجح أن يستمر ذلك. ترى أبو ظبي التغيير في سوريا كتهديد ينعش أجواء الربيع العربي، ويعود بالإسلام السياسي إلى الواجهة. تباين المواقف العربية تجاه سوريا يعكس الانقسامات الإقليمية، ويتطلب جهوداً دبلوماسية مكثفة لتجاوز هذه الخلافات، وبناء توافق عربي حول مستقبل سوريا.

ستكون السياسة الخارجية للنظام الجديد عموماً ذات طابع انكفائي يتجنب العداء والتصعيد مع الأطراف الخارجية، وستكون التوجهات الأساسية هي الاكتفاء بالحلف الثلاثي (السوري - التركي - القطري) والابتعاد عن صراعات المحاور الاقليمية والدولية، وذلك نتيجة هشاشة الوضع الداخلي والتحدي الاقتصادي الواسع وانهيار دفاعات البلاد العسكرية. السياسة الخارجية الانكفائية براغماتية بطبيعتها وقد تكون ضرورية في المرحلة الانتقالية، لتركيز الجهود على الداخل، وتجنب الدخول في صراعات إقليمية ودولية جديدة.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور