على الرغم من صغر حجمه، يحتل لبنان أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للمملكة العربية السعودية في حساباتها الإقليمية. والسعوديون على استعداد لتكريس موارد وبذل اهتمام خاص بلبنان قد لا يخصصونه لبلدان أخرى، بسبب أهميته الاستراتيجية المتصورة في التنافس السعودي الإقليمي الأوسع.
تدرك السعودية من خلال العمل وفق النمط الامريكي في لبنان أن السياسة غالبًا ما تتعلق بتراكم الإنجازات وأن التدخل في التفاصيل، سواء كان للتأثير على تعيين محلي، أو تشكيل سياسة ثانوية، أو التحكم في الرواية في وسيلة إعلامية محددة، يساهم في التأثير التراكمي المنشود. وأن هذه الإجراءات الصغيرة الظاهرية، عند مضاعفتها في مجالات مختلفة، يمكن أن تغير بشكل كبير المشهد السياسي العام لصالح السعودية بمرور الوقت.
وينبع التدخل السعودي الجاري في التفاصيل الدقيقة للسياسة اللبنانية، حتى تلك التي تبدو غير مهمة، من مزيج من الحسابات الاستراتيجية، وانعدام الثقة العميق، والرغبة في ممارسة أقصى قدر من النفوذ. قد يبدو التركيز على "التفاصيل الصغيرة" غير متناسب، ولكن بالنسبة للمملكة العربية السعودية، غالبًا ما تكون هذه التفاصيل قطعًا حاسمة في لعبة أكبر وأكثر تعقيدًا. حيث تنظر السعودية إلى لبنان باعتباره ساحة معركة حاسمة في تنافسها الإقليمي الأوسع مع إيران. وهي ترى السياسة اللبنانية كنموذج مصغر لهذا الصراع الأكبر. وتعتبر السيطرة على التفاصيل، حتى تلك التي تبدو ثانوية، ضرورية للسيطرة على المسار العام للبنان ومنعه من الانزلاق أكثر تحت النفوذ الإيراني.
بعد عامين تقريبًا من الانكفاء الجزئي عادت المملكة العربية السعودية وبمباركة أمريكية لتمارس دور الوصاية على أجزاء مهمة من المشهد اللبناني العام وذلك بعدما انتفى العائق الذي منعها من استثمار تدخلها السابق في الانتخابات النيابية اللبنانية عام 2022، وهو تركيبة السلطة التي خرجت بعد الانتخابات والتي لم تكن مواتية إلا لممارسة جزء من النفوذ السعودي ولم تكن بحجم طموحات المملكة. كانت معركة السعودية التي شنت في انتخابات 2022 البرلمانية تهدف إلى الامساك بالسلطة التنفيذية بطرفيها:
- الحكومة "مالكة الصلاحية" التي كانت تطمح الرياض أن تشكلها بواسطة الأغلبية النيابية التي اعادت انتزاعها من التحالف الوطني (حزب الله وحلفاؤه)
- رئاسة الجمهورية التي كانت أمام استحقاق انتخابات رئاسية جديدة مع قرب نهاية عهد الرئيس ميشال عون.
إلا أن الظروف السياسية المحلية والاقليمية لم تمنح السعودية فرصتها المزعومة بالسيطرة والتحكم أو الوصاية على طرفي السلطة التنفيذية، حيث اديرت البلاد في فترة الفراغ الرئاسي بواسطة الحكومة التي لم تتمكن السعودية من الوصاية عليها بسبب غياب تمثيلها الوازن فيها، وعلقت انتخابات رئيس جديد للجمهورية بسبب عدم قدرة حلفاء السعودية في البرلمان تأمين النصاب لانتخاب رئيس. بقيت الأوضاع على ما هي عليه حتى اندلعت معركة أولي البأس 23-9-2024، حيث خرجت أولى تعبيرات ما اعتقدت السعودية وحلفاؤها اللبنانيون أنّ حزب الله أصيب بضعف شديد وخسائر كبيرة في هذه المعركة وكان التعبير الأبرز عن المرحلة القادمة ما أطلقه سمير جعجع الحليف رقم 1 للسعودية في لبنان بصراحة وفي عز المعارك الطاحنة في الجنوب وتعرض نصف مساحة لبنان لغارات مدمرة في مقابلة مع قناة ال "أل بي سي" اللبنانية في 7-11-2024:"أنه يقبل بجلسة لانتخاب رئيس للجمهورية لا تشارك فيها الطائفة الشيعية"، كانت كلمة السعودية تلك على لسان أكبر حلفائها إيذانًا بعودة الماكينة السعودية للعمل بكامل طاقتها على حساب ما زعم ويزعم حلفائها أن المقاومة تعرضت لخسارة كبرى في حربها مع العدو.
فور انتهاء الحرب تمكنت الولايات المتحدة وبمشاركة سعودية من القبض على السلطة واستخدمتا نفوذهما في السلطة التشريعية لتأمين انتخاب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، باندفاعة كبيرة وتعيين القاضي نواف سلام بعد أيام رئيسًا للحكومة.
بدا من خلال ما تقدم أن وظيفة العهد الجديد وحكومته الأولى في المفهوم السعودي على الأقل قد تأمنت وأن الباقي هو إطلاق مشروع تحجيم حزب الله بعد نزع سلاحه ونزع أي إمكانات قد تكون في تصرفه لتدعيم بيئته بهدف محاصرة وتطويع تلك البيئة، ومن ذلك:
- التدخل في عرقلة الاموال المخصصة لإعادة الاعمار وربط أي مساعدات بشروط يتضمن أهمها "نزع سلاح حزب الله".
- التدخل بشكل علني لتشجيع ما قامت به القوى الأمنية اللبنانية من إجراءات سلبية تطال حزب الله وبيئته بشكل مباشر.
- دعم الحكومة اللبنانية في اجراءاتها لقمع وتخريب اعتصام لحزب الله قرب المطار.
- فتح هواء الاعلام السعودي لمن أراد المس بحزب الله والطائفة الشيعية في لبنان، والمساهمة في بناء وتفنيد وتوسيع رواية هزيمة حزب الله في وسائل الاعلام الكلاسيكي والجديد وعبر مجموعة من الشخصيات المؤثرة المرتبطة بالسعودية.
- التدخل المباشر خلف الستار في موضوع التعيينات وملئ الشواغر في الادارة اللبنانية لضمان عدم الاتيان بأي مسؤول أمني أو مدني متعاطف مع حزب الله.
- دعم الرواية السورية المختلقة حول تدخل حزب الله في أحداث البقاع والحدود الشرقية.
- محاولة خلق حالة من الانقسام السني الشيعي باستعمال كل ما يمكن من دعايات تطال إذكاء الفتنة بين الطرفين حصرًا.
- الاشراف المباشر على تركيب اللوائح وتنظيم التحالفات في الانتخابات البلدية والمحلية اللبنانية والضغط على تيار المستقبل ومجموعات سنية وازنة للانسحاب لمصلحة قوى واتجاهات مقربة من السعودية سنية وغير سنية وعلى رأسها القوات اللبنانية.
في هذا الإطار، نقدم إليكم دراسة مفصّلة بعنوان "برنامج التدخل والتأثير السعودي في السياسة اللبنانية".
يمكنكم تحميلها من هنا