لا يزال مشروع التهجير الفلسطيني، مخطّط يحمل في طيّاته مخاطر وجودية تهدّد السكان الفلسطينيين، ليس سكان قطاع غزة فحسب، إنّما أولئك الحاملين للجنسية الإٍسرائيلية داخل الأراضي المحتلة أيضًا، خاصة مَن يُظهرون تعاطفًا مع أشقائهم في قطاع غزة والضفة الغربية. فمنذ تأسيس الكيان المؤقت في العام 1948، لم يتوقف الجدل السياسي والأمني داخل هذا الكيان بشأن الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم وأصبحوا لاحقًا يعرفون باسم "عرب 48"، الذين يشكّلون تحديًا للهوية القومية اليهودية التي تسعى إسرائيل لترسيخها. وقد عكست خطابات كثير من القادة الإسرائيليين – في الحكومات والأحزاب – توجهًا نحو الطرح التهجيري أو تقليص الوجود الفلسطيني عبر وسائل سياسية واقتصادية وقانونية.
وعليه، هناك مؤشرات عدّة تنطوي على نوايا قد تهدّد الوجود الفلسطيني في المناطق المحتلة، وهو ما سيتمّ الإشارة إليه في هذه الورقة.
انتهاكات بحق فلسطينيي 48 منذ اندلاع "طوفان الأقصى":
- تضاعف عمليات الاعتقال والتي طالت مئات الأشخاص بتهم تتعلّق بالتعبير عن الرأي.
- تعرّض عدد كبير منهم للطرد من العمل أو السجن نتيجة منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي متضامنة مع غزة.
- تعرّض المئات للعنف والاعتداءات اللفظية والتمييز العرقي.
- منع كل أشكال الاحتجاج والمظاهرات وقمعها.
- تعرّض الطلاب العرب لحالات اضطهاد وهجوم من قبل اليهود المتطرفين، واحتجازهم داخل السكن الجامعي، هذا بالإضافة لتجميد تعليم عشرات الطلاب.
خطة "دالت": وضعها بن غوريون قبل 4 سنوات من قيام الكيان، والتي تقضي بتدمير القرى وطرد السكان والقضاء على أي مقاومة مسلحة وإزالة كل الآثار الإنسانية والعمرانية، وتحويل الأماكن الفلسطينية إلى أرض محروقة خالية من أي معالم حياة، والإبقاء على قوات في القرى المحتلة لمنع عودة أهلها.
هناك عدة مؤشرات تحمل نوايا صهيونية باحتمال لجوء الكيان لتهجير فلسطينيي الداخل المحتل إلى دول أخرى لا سيما المجاورة:
- إطلاق وزراء في الحكومة الصهيونية دعاوى تطالب بطرد "عرب إسرائيل" خارجًا، وهو أمر يتكرّر من وقت لآخر في ظل المناقشات المتعلقة بتأمين الكيان من الداخل، لتعزيز المناعة "الوطنية" في مواجهة الأخطار والتحديات الراهنة والمتوقعة، ويتماشى مع الدعوة إلى "نقاء دولة يهودية لا وجود فيها للأغيار من الذين يعملون ضد أمنها"، خوفًا من تحوّل هذه الفئة لقيد على الدولة العبرية، وعائق حقيقي أمام تطويرها لقدراتها أو أمنها الداخلي، خاصة في ظل الوضع الراهن الذي يحتاج فيه الكيان، بحسب زعم قادته لمراجعات مهمة وتماسك مجتمعي حقيقي، في ظل ما يجري من تهديدات متعلّقة بالاستقرار والوحدة الداخلية واستغلال وجود مخاوف حول استمرار الكيان ووجوده.
- لم يخفِ قادة الكيان سعيهم نحو تنفيذ مخططاتهم تجاه فلسطينيي 48، فبحسب تصريحات قادة اليمين لن يلجأوا لقتلهم ولكن سيهجرونهم من بيوتهم، في خطة عمل تمّ الاتفاق عليها من خلال منح ما يسمّى "وزارة النقب والجليل"، التي يديرها إيتمار بن غفير موازنة إضافية بهدف تعزيز عملية التهويد في هذه المناطق.
- إقدام نواب اليمين المتطرّف بتقديم تعديل لـ"قانون المواطنة الإسرائيلي"؛ لترحيل وإبعاد كل مواطن فلسطيني داخل أراضي الـ48، يحمل الهوية أو الجنسية الإسرائيلية؛ حال "أدين بتهم توصف بالإرهابية" أو جرى الشكك في انتمائه لأي من الجماعات التي يصفها الكيان بـ"الإرهابية"، ما يضع علامات الاستفهام حول مصير فلسطينيي الداخل المحتل ومساعي الكيان لإبعادهم وتهجيرهم قسرًا من خلال مصادرة حق المواطنة، وإتاحة الفرصة لتهجيرهم خارج أراضيهم بدعوى دعم المقاومة أو الانتصار لقضيتهم.
- فلسطينيو 48، هم أكثر المتضررين في الداخل المحتلّ نتيجة الخسائر التي يتعرّض لها الكيان كون أغلبهم يعمل في البناء، السياحة، المطاعم ومجالات عدة تضرّرت نتيجة الضربات الاقتصادية، هذا بالإضافة للعنصرية التي يتعرّضون لها.
- تضييق الخناق على حياة الفلسطينيين في الدّاخل المحتل.
- السعي لتقليل عدد الفلسطينيين خاصة بعدما بلغ عددهم "وفقًا لأرقام المكتب المركزي للإحصاء الاسرائيلي في العام 2024 قرابة مليوني نسمة (21% من مجمل "المواطنين" في إسرائيل)"، ما يثير قلق الحكومة، التي تدرك أنّ القنبلة الديمغرافية ستنفجر يومًا ما. إذ أنّ الزيادة السكانية تلك، مقارنة بنسبة اليهود، تشكّل خطرًا على المشروع الصهيوني وعقبةً أمام الكيان في المستقبل البعيد.
- مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية والسيطرة عليها لصالح إقامة مجمعات استيطانية يهودية على الأراضي المصادرة.
- منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى، فرض الكيان أنظمة الأحكام العرفية والطوارئ وفق الأمر رقم (8)، وبموجبه سحب وألغى جميع الحقوق الأساسية من حرية التعبير والتظاهر وحرية التضامن بالأساس بين فلسطينيي 48 لمنعهم من التضامن مع غزة، ليضع هذه الشريحة رهينة الأمر رقم (8) والتحريض العنصري ضدها ومنعها من أي عمل احتجاجي أو تضامن مع الفلسطينيين في غزة وقيدت الحكومة تحركاتها.
- تأجيج مشاعر الكراهية ضد العرب وتسليح اليهود في المدن المختلطة والمحيطة كذلك بالقرى والبلدات العربية، إلى جانب أنشطة هدم وتدمير المنازل في صحراء النقب.
- استغلال كلّ حدث وكل ظاهرة من أجل تمرير المزيد من السياسات الإقصائية والعقابية والدفع بالفلسطينيين للهجرة.
- إقرار الكنيست مشروع قانون يمنح وزير الداخلية صلاحية إبعاد أقارب منفذي الهجمات عن البلاد، لمدة تصل إلى 20 عامًا، وبالتالي، سيتم إبعاد قريب منفذ الهجوم "إلى قطاع غزة أو إلى مكان آخر يتم تحديده حسب الظروف"، إذا تبيّن أنه "كان على علم مسبق بنيّة قريبه تنفيذ عمل إرهابي، ولم يبذل الجهد المطلوب لمنعه".
- "الموت للعرب" هو الشعار الذي بات يتردد بين كل مجموعة يهودية مشاركة في برنامج أو تظاهرة أو أي نشاط، ويكفي أن ينطق الشخص بالعربية حتى يصبح ضحية لاعتداءات بعضها خطرة.
- رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة توسيع مسطّحات البناء الجديدة، وخنق الحيز الحياتي والمعيشي للفلسطينيين، يدفع الشباب في الأساس إلى الهجرة إلى خارج بلداتهم، والبحث عن وحدةٍ سكنيةٍ في المدينة القريبة، وبالتالي السعي لخلق واقع يمكّن عمليات التهجير والترحيل ("أرض أكثر، فلسطينيون أقلّ).
- تلميح مراكز الدراسات لا سيما معهد دراسات الأمن القومي إلى العوامل التي من شأنها تقويض روتين العلاقات القائمة بين الأقلية العربية والأغلبية اليهودية في الكيان بعد طوفان الأقصى، فكلّما استمرت المأساة الإنسانية في القطاع، كلما تفاقم الغضب لدى الجمهور العربي وتصاعدت الحاجة إلى الاحتجاج ضد الحرب. والتركيز على سعي اليمين المتطرف إلى تشويه صورة المجتمع العربي كعدو، وتعميق الشعور بالغربة لدى المواطنين العرب، ممّا قد يعزّز العناصر القومية والدينية المتطرفة الموجودة في المجتمع العربي. هذا بالإضافة إلى الحديث عن أن الشعور بالأمن الشخصي قد تضرر أيضًا بسبب التخفيف الأخير في إجراءات ترخيص الأسلحة النارية، ما أدى إلى زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يحقّ لهم حيازة الأسلحة، كما وتضرّر الرفاهية الاقتصادية خلال الحرب (ارتفاع نسبة البطالة، التغيب عن العمل في الأعمار الصغيرة ما يؤدي إلى تفاقم ظاهرة عدم النشاط لدى الشباب، الدعوات على شبكات التواصل الاجتماعي لمقاطعة الشركات العربية، التخفيضات الأفقية في الوزارات الحكومية أضرّت بالخطة الخمسية للمجتمع العربي...) وتمّ الإشارة أيضًا إلى تفاقم القيود المفروضة على حرية التعبير وتزايد الشعور بالاضطهاد من جانب الحكومة في ظل الإقصاء الدائم للطلبة العرب من مؤسسات التعليم العالي، وإنهاء عمل العرب في مختلف قطاعات التوظيف، وتعرّضهم للمضايقات من قبل العناصر القومية المتطرفة. وعليه، هناك تسليط للضوء على عوامل عدّة تهدّد علاقة الكيان والأغلبية اليهودية بالمجتمع العربي على أن الخطر الاستراتيجي يتمثّل في التدهور إلى العنف المتبادل.
- تصريحات قادة الكيان، كوزير المالية وزعيم الصهيونية الدينية المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي وصف (2 تموز 2024)، ""عرب الداخل" بأنّهم تهديد وجودي لدولة "إسرائيل" ويحملون أسلحة وذخائر كانوا قد اقتنوها بطرق غير شرعية من قواعد جيش الاحتلال الإسرائيلي وقد يخدمون على حد تعبيره "خطة الاحتلال الإيراني"".
التخلص من الفلسطينيين في الخطاب الصهيوني
يشير تتبع الخطاب الصهيوني إلى أن فكرة التخلص من الفلسطينيين، بما فيهم عرب 48، ليست مجرد مواقف فردية، بل مشروع متكامل يتجدد وفق المعطيات السياسية والأمنية، منذ نشوء الكيان. في حين أن هذا الطرح يواجه اعتراضات داخلية ودولية، إلا أن غياب حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية يبقي احتمالية تصاعد هذا الخطاب، وتحوّله إلى سياسات عملية على الأرض، قائمة بقوة.
تعتبر بعض التيارات اليمينية، مثل تيار الصهيونية الدينية وحزب "إسرائيل بيتنا" بقيادة أفيغدور ليبرمان، أن وجود العرب داخل إسرائيل "تهديد ديمغرافي" وقد تمّ طرح فكرة "تبادل الأراضي والسكان"، أي نقل المناطق ذات الأغلبية العربية إلى السلطة الفلسطينية مقابل ضم المستوطنات الكبرى. وبالتالي، يختلف مستوى الطرح (التخلص من الفلسطينيين): من دعوات صريحة إلى تلميحات وتحذيرات ديموغرافية، حيث تشكّل فكرة "تبادل السكان" الصيغة "الدبلوماسية" التي يحاول بها بعض قادة الكيان تمرير مشروع التهجير "دون خرق القانون الدولي" صراحةً.
إن "التخلص من الفلسطينيين" (الفلسطينيين عمومًا بمن فيهم فلسطينيي 48) ليس مخطط وليد اليوم إنما مشروع قائم منذ قيام الكيان المؤقت وموجود في مختلف مستويات الخطاب الصهيوني. وقد تراوحت الوسائل المطروحة بين: الترانسفير القسري (الطرد الفعلي، التضييق لدفع الهجرة الطوعية، التبادل السكاني عبر إعادة رسم الحدود، تجريم الهوية الوطنية كوسيلة لاستبعاد العرب سياسيًا وقانونيًا).
وتضمّن الخطاب الصهيوني:
- مضمون أمني: اعتبار الفلسطينيين تهديدًا أمنيًا وديمغرافيًا، ما يبرّر خطاب الطرد أو التضييق في الرواية الإسرائيلية.
- استغلال للأزمات: تصعيد الخطاب التهجيري عقب الأزمات الكبرى (مثل الحروب مع غزة أو انتفاضات فلسطينية).
- تحريض داخلي: تزايد لهجة التحريض والكراهية ضد فلسطينيي الداخل في فترات الانتخابات، حيث يستخدم اليمين هذا الخطاب لكسب أصوات اليمين المتطرف.
رغم أنّ عملية التهجير تواجه مجموعة من التحديات على الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية، إلّا أنها بدأت بشكل فعلي في القطاع والضفة الغربية، كونها الخيار الأفضل للكيان على المدى الطويل، حيث يرى الاحتلال أن نموذج السلطة الفلسطينية، خيار لم ينجح تمامًا كما توضح تجربة "حفظ الأمن" في الضفة، كما أن نموذج التخلي عن الاحتلال ومغادرة الأراضي كما حدث في غزة لم ينجح أيضًا، جعل خيار التهجير مفضّلا للجانب الإسرائيلي، في ظلّ أن الفكرة متأصلة في النظرة الصهيونية إلى كون "أرض إسرائيل" حقًا وراثيًا لليهود، وإلى كونها ملكًا لليهود حصراً (لا للعرب الفلسطينيين). ويُعدّ تسليط الضوء على سوء العلاقة بين فلسطينيي الداخل المحتل والإسرائيليين الحجّة والمبرّر والدّافع لأي مخططات قد تقدم عليها الحكومة الصهيونية لاستكمال مشروعها التوسعي، في ظل اتخاذها خطوات تضييقية كجزء من خطّة تهجير صامتة، تضيّق عبرها الخناق على حياة الفلسطينيين في الداخل. إذ تلجأ الحكومة لوضع أسس تفتيت المجتمع الفلسطيني فيها، وخلق واقعٍ جديدٍ، في ظل خططها التوسعية والتهويدية التي تهدف لتمهيد الطريق أمام تشكيل "إسرائيل الكبرى"، والقضاء على كل ما يتعلّق بأحقية القضية الفلسطينية ووجود الفلسطينيين.