شهد العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين تحولات متسارعة في مفهوم القوة العسكرية، مع ازدياد الاعتماد على التكنولوجيا الحديثة في إدارة الصراعات المسلحة، ففي السنوات بين 2006 و2024 شهدت تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق في مجالات الحرب العسكرية الإسرائيليّة، لاسيما في مجال التكنولوجيا، فبرزت إسرائيل بوصفها نموذجًا متقدماً في تطوير وتوظيف التكنولوجيا العسكرية، مدفوعة ببيئة إقليمية معقدة تهدد أمنها القومي باستمرار.
لا تكمن أهمية هذه الحقبة في الحروب التقليدية أو العمليات العسكرية التقليدية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل في التحولات التكنولوجية الجذرية التي غيرت قواعد الاشتباك وطريقة التفكير الاستراتيجي في الجيوش الحديثة. في هذا الكتاب، التطور التكنولوجي العسكري الإسرائيلي 2006-2024، نغوص في دراسة شاملة حول كيف اعتمدت إسرائيل على الابتكارات التكنولوجية لتحديث بنيتها العسكرية وتحقيق التفوق النوعي على الصّعيد التّكنولوجي في بيئة معقدة ومتقلبة.
(ولابدّ من الإشارة هنا أنّ معالجتي للموضوع هي من خلفيّة علميّة بحتة، لا علاقة للخلفيّة الأيديولوجيّة الّتي تطلّب منّي ذكر فشل العدوّ في جميع حروبه الّتي خاضها مع المقاومة منذ إعلان دولته، فمن أراد قراءة إحدى مسارات الهزائم للعدوّ فليراجع كتابي (معركة الطوفان) فقد ذكرت هناك تفصيلاً عن البعد الأيديولوجي والمعنوي، فعندما أذكر مصطلح التّفوق، إنّما أرصد الجهة المادّية والعتاديّة للعدوّ، لا من جهة الغالب والمغلوب).
وعلى كلّ حال فمن خلال استعراض شامل للتطورات التكنولوجية التي حققتها إسرائيل في مختلف المجالات - من الدفاع الجوي والصواريخ إلى الهجمات السيبرانية والطائرات بدون طيار - نرصد كيف قامت هذه الدولة بتوجيه إمكانياتها العلمية والهندسية في خدمة أهدافها الأمنية والعسكرية. وهذا التحول لم يقتصر فقط على إدخال تقنيات جديدة، بل شمل بناء ثقافة قتالية تقوم على الذكاء الاصطناعي والأنظمة الذاتية التي تحوّلت إلى عنصر أساسي في استراتيجيات الجيش الإسرائيلي.
أهمية هذا الكتاب تكمن في تقديم تحليل ميداني وأكاديمي لتلك التحولات التقنية من خلال دراسة معمقة للمشروعات التي بدأها الجيش الإسرائيلي، مثل منظومات الدفاع الحديثة، وكيف كانت هذه الأنظمة جزءًا من تطوير العقيدة العسكرية الإسرائيلية. كما يتطرق الكتاب إلى تطور الحروب السيبرانية ودورها الحيوي في تهديد الأمن القومي وكيفية التصدي لهذه التهديدات بأسلحة رقمية.
وهو يهدف أيضاً إلى إثراء النقاش الأكاديمي والعسكري حول تأثير التكنولوجيا على الحروب الحديثة، وهو يستهدف كل من الباحثين في مجالات الأمن القومي والتكنولوجيا العسكرية، وكذلك صناع القرار العسكري الذين يتطلعون إلى فهم التطورات التكنولوجية وكيفية توظيفها في تعزيز القدرات الدفاعية.
تتمثل منهجية الكتاب في تحليل دقيق للمرحلة الزمنية الممتدة بين 2006 و2024 عبر دراسة الوثائق العسكرية، ورفد تصريحات الخبراء، وتحليل العمليات العسكرية الكبرى التي نفذتها إسرائيل في هذه الفترة. يعتمد الكتاب أيضًا على إطار نظري يعزز الفهم العميق لتأثيرات الابتكار التكنولوجي على الاستراتيجيات العسكرية وكيفية تطور دور الجيش الرقمي في المعركة الحديثة.
نعم فإن التطور التكنولوجي الذي شهدته إسرائيل بين عامي 2006 و2024 علاوةً على أنّه رد فعل على التحدّيات الأمنيّة الّتي تواجهها وواجهتها إن كان في حرب ال 33 يوم مع المقاومة الباسلة في جنوب لبنان، أو مع المقاومة الصّامدة في قطاع غزّة، فهي بمثابة ثورة استراتيجية في كيفية إدارة الصراعات العسكرية. بدايةً من حرب لبنان الثانية 2006، كانت هناك إشارة قوية بأن الجيش الإسرائيلي بحاجة إلى التكيف مع عصر جديد يتطلب مزيدًا من الابتكار التكنولوجي لمواكبة المتغيرات المتسارعة. وبناءً على هذه الدروس، بدأت إسرائيل في استثمار طاقاتها العلمية والهندسية في بناء منظومات دفاعية مبتكرة، مثل القبة الحديدية وأنظمة "مقلاع داوود"، التي غيرت بشكل جذري الطريقة التي يُدار بها الصراع العسكري في المنطقة.
ولكن لم تقتصر هذه التحولات على القدرات الدفاعية، بل شملت تحسينات هائلة في الهجمات الرقمية، من خلال تطوير أسلحة سيبرانية متقدمة، واستخدام الطائرات المسيّرة في عمليات هجومية واستخباراتية دقيقة. في الوقت نفسه، كان هناك تحوّل جوهري في التفكير العسكري الإسرائيلي، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي أحد العوامل الرئيسية في تحديث جميع العمليات العسكرية، بدءًا من التحليل الاستخباراتي وصولًا إلى اتخاذ القرارات التكتيكية على الأرض. هذه التكنولوجيات لم تقتصر فقط على تحسين أداء الجيش الإسرائيلي، بل أتاحت له تحقيق التفوق الاستراتيجي في العديد من الجبهات.
الحروب الحديثة التي شهدتها اللّادولة إسرائيل في هذه الفترة، مثل الحروب الإستنزافيّة ضد حركة حماس في قطاع غزة، ومعركة الصّمود مع حزب الله والضّربات الجوّية والأعمال الكومندوسيّة في سوريا ضد الحرس الثّوري الإيراني وجهات إيران الدّبلوماسيّة (قصف القنصليّة) وضدّ حزب الله بضرب بعض تموضعات قوّة الرّضوان، أو بعض شحنات الأسلحة كإحدى استراتيجيّات المعركة بين الحروب (والّذي يكشف تكتيك العجز الإسرائيلي، ربّما يأتي الكلام عن مقصدي بالعجز هنا بكتاباتٍ لاحقة)، تُظهر بوضوح كيف أثرت هذه التقنيات المتقدمة في مسار المعارك. فقد مكنت هذه الأنظمة بدون شكّ أو انحياز من تقليل الخسائر البشرية، وزيادة دقة الهجمات، وتحقيق الردع على نحو غير مسبوق منذ حرب ال 73، علاوة على ذلك، أعادت هذه الابتكارات تشكيل التوازنات الإقليمية، حيث فرضت على الجيوش والمقاومات الموجودة في المنطقة – المقاومة اليمنيّة، حزب الله، المقاومة العراقيّة- تسريع وتيرة تطوير تقنيات مشابهة لمواكبة هذا التقدم، لمواجهة ومجابهة التّكنولوجيا بالقدرات المتوفّرة حسب سقف المقدّرات.
لكن وراء هذه النجاحات على صعيد التّطوير التّكنولوجي العسكري، أطرح في طيّات الكتاب أسئلة تهكميّة تكشف فشل كلّ هذه المنظومات الإعجازيّة على صعيد تصوّرها، بأنّه كيف لهذه النجاحات التّطوريّة أن تعجز من تحقيق الأهداف الإستراتيجيّة للهيئة السّياسيّة ( اقتلاع المقاومة بأشكالها من المنطقة ، وإعطاء جرعة الحياة الأبديّة للكيان الغاصب، فأنا أقصد هنا ، بأنّ تجربة معركة الطّوفان وأولي البأس كشفت عن عدم الوصول للأهداف المنشودة في ظلّ التّفوق التّكنولوجي، الّذي من المفترض إعطاء الجرعة الأبديّة للدوّلة ، فمثلاً يوم السابع من أكتوبر المقدّس كان يوم محو أسطورة الأمن المطلق المعتمد على التّكنولوجيا المتطوّرة، وقد ذكرت هذا البحث في كتابي ( معركة طوفان الأقصى ) فمن أراد التّوسع فليقرأ البحث هناك، وكيف يمكن أن توازن إسرائيل بين التفوق التكنولوجي وبين الحفاظ على أمنها المهدّد؟ هل يمكن استخدام الأنظمة الذاتية في الحروب دون وضع إحتماليّة خرقها أو فشلها؟ وهذه تساؤلات سنحاول الإجابة عليها في فصول الكتاب، حيث نسلط الضوء على كيفية تأثير هذه التطورات على الخلفيّة العقديّة للجيش وكيفية تفاعل المجتمع الصّهيوني مع فشل هكذا نوع من الابتكار العسكري، في حماية أزليّة للكيان الغاصب.
وهذا الكتاب يركز على التّحولات الّتي حدثت في الجيش الإسرائيلي، إلا أنّه يجب القول وللإنصاف بأنّ التّكنولوجيا العسكرية التي تم تطويرها في إسرائيل وخصوصاً في قطاعها للصّناعات العسكريّة تمثل نموذجًا قد يُحتذى به من قبل دول أخرى، سواء كانت حليفة أو معادية. وبالتالي، فإنّي في هذا الكتاب سأتناول الماضي 2006، حتّى ال 2024 وتغيّر العقيدة الأمنيّة للجيش في ظلّ تسارع التطور التكنولوجي والرقمي في مجالات الحرب.
وأتمنّى أن يكون هذا الكتاب بمثابة محاولة لفهم التحول العميق الذي شهدته إسرائيل في فترة حساسة ومفصلية من تاريخها العسكري. من خلال استعراض تكنولوجيا الحرب الحديثة التي طوّرها الجيش الإسرائيلي، ونأمل أن نوفر للقارئ فهماً أعمق لكيفية تأثير التكنولوجيا على استراتيجيات القتال وعلى الأمن القومي بشكل عام. في النهاية، هناك تحديات جديدة ستواجهها الجيوش التقليدية في عالم يحكمه الذكاء الاصطناعي، الأنظمة الذاتية، والحروب السيبرانية، مّما يستدعي تكثيف الجهد للتّطور في مقابل التطوّر ومجارات العدوّ في تفاصيل قدرته وفهمها، لنكون ممّن (وأعدّو لهم ما استطعتم من قوّة)، وعلى الله الاتكال.
لفت نظر: في الكثير من المقالات، اعتمدت على مصادر أجنبية، ترجمتها وأعدت صياغتها، وكذلك على مصادر عربيّة لباحثين إستراتيجيّين، أعدت صياغتها ودمجتها، وطبعاً بعد كلّ عنوان ذكرت المصدر الّذي نقلت عنه المعلومات، وهذا ما يضفي الدّقة العلميّة في نقل المعلومة، وصحتها، وأخيراً جمعت كلّ المصادر والمراجع في آخر الصّفحات، ليتسنّى للقارئ مراجعتها والتّوسع إذا أراد ذلك.
لتحميل الكتاب من هنا
الكاتب: ش. أحمد علاء الدّين