تقول ابنة شقيق ترامب، ماري ترامب، في كتابها “Too Much and Never Enough” "دونالد لا يهتم إلا بما يمكن أن يستفيد منه، ولو كان على حساب أقرب الناس إليه؛ الولاء عنده طريقٌ باتجاه واحد." طاولةٌ تحكمها المصالح تجمع بين الحليفين المتنافرين: ترامب، الساعي إلى تنصيب نفسه "رجل سلام"، ونتنياهو، أداة القتل التي لن يوقفها إلا الارتطام بجدار التحالفات الذي يبنيه ترامب بعناية لحماية مصالحه. تتأزم الأمور في وجه نتنياهو في عهد ترامب، الرجل الذي يعقد الصفقات السياسية بعقلية رجل أعمال يتوخى الفائدة من كل عرض. فبين الاستمرار في العمليات العسكرية التي لم تحقق أهدافاً على مختلف الجبهات (ما يكرهه ترامب)، وبين السير في نهج الرئيس الأمريكي القائم على الدبلوماسية، يقع نتنياهو في مأزق: فإذا تابع مساره، قد يتلقى تأديباً وعقوبة؛ وإذا عدل عنه وانتهج المسار الذي ينتهجه الأخير، سيغرق في عقدة الوجود والاستمرار. فإلى أين يذهب نتنياهو؟ وهل يمكنه الموازنة بين الحفاظ على وجوده بمنصبه والتمسك فيه، وبين اتباع نهج الحليف الأمريكي ترامب؟
فشل عسكري متعدد الجبهات
بعد عملية "طوفان الأقصى" في عام 2023، تلقت حكومة الاحتلال صدمة كبيرة نتيجة فشلها في توقّع هجوم المقاومة الفلسطينية المباغت على مستوطنات غلاف غزة، ما أثار هاجساً لدى نتنياهو بشأن عجزه عن ضمان أمن "إسرائيل" وحمايتها، وعرّضه لانتقادات داخلية وُصف فيها بالإهمال. ومنذ ذلك الحين، بدأ باتخاذ إجراءات تهدف إلى منع تكرار سيناريو السابع من أكتوبر، ففتح جبهة غزة التي سرعان ما ساندتها جبهة لبنان، ثم اليمن، واضعاً أهدافاً عسكرية تفوق قدراته على الإنجاز، أبرزها القضاء على حركة حماس وشلّ الجبهات الإقليمية التي يمكن أن تهدد وجود الكيان. وفي أيلول 2024، قرر شنّ حرب شاملة على لبنان بهدف إعادة المستوطنين إلى منازلهم في الشمال، لكنها انتهت كسابقاتها دون تحقيق الهدف المعلن. وهكذا يكون نتنياهو قد أخفق في تحقيق مكاسب عبر المسار العسكري، ما كلّفه خسائر كبيرة وأدّى إلى تآكل فعلي في هيبة الردع "الإسرائيلية".
ترمب يتجه نحو التحالفات المربحة لا الحروب الخاسرة
بحسب البرنامج الذي يسير فيه ترامب، فإن المسار الذي ينتهجه نتنياهو لا يناسبه، بل يمكن أن يشكّل عقبة في طريقه. ليس لأن ترامب يسعى إلى تهدئة الأوضاع في المنطقة إرضاءً لطرفٍ معيّن، بل بدافعٍ يحركه دائماً: الاستثمار. فهو يريد بناء استقرار يسمح له بعقد شراكات مربحة، لا سيما مع دول الخليج، وليس خوض مواجهات تستنزف الأطراف وتعرقل مشاريعه. فبنظره، كل تصعيد عسكري يقوم به نتنياهو حالياً يهدد الاستقرار الذي يحتاجه لإطلاق مشاريعه في المنطقة. وترامب جاهز لاتخاذ خطوات تأديبية تجاه نتنياهو. فتحركاته الأخيرة، التي أدت إلى الإفراج عن الأسير في قطاع غزة عيدان ألكسندر، والتنسيق المباشر مع حركة حماس دون إشراك "إسرائيل"، جاءت كرسالة تحذيرية. بالإضافة إلى الاتفاق الذي عقده مع اليمن الذي فرض حصاراً بحرياً على كيان الاحتلال ووجه له ضربات قاتلة أبرزها الضربة الأخيرة على مطار "بن غوريون". ولكن ترامب فضّل أن يلجأ للتهدئة بعد أن لمس حجم التهديد اليمني الذي قد يضر مصالحه حالياً حتى ولو جاء هذا على حساب "إسرائيل". بالتالي هذه الخطوات تهدف إلى إجبار نتنياهو على الإصغاء لمطالب ترامب تحت الضغط. وهذا ما يضع نتنياهو في مأزق فعلي: هل يواصل الحرب ويتجاهل المطالب الأمريكية؟ أم يلتزم بما لا يتناسب مع مزاجه السياسي وتاريخه الشخصي؟
نفقٌ بلا أُفق
يتحتم على نتنياهو إعادة تقييم المسار بعد تضييق الهوامش، ما يفرض أمامه سيناريوهين: الأول، الاستمرار في ارتكاب مزيد من المجازر أملاً بالبقاء في الحكم. لكن هل تُصنَّف المجازر كوسيلة لبلوغ هدف، أم أنها مؤشر على فقدان الهدف والعجز؟ فحجم الدمار لا يُعوّض إخفاق الردع، واستهداف المدنيين لا يُعيد ثقة الداخل "الإسرائيلي" بقيادته، بل يُظهره كمن يحاول يائسًا إثبات قوته، في حين أن الواقع يكشف أزمة استراتيجية حقيقية. أما السيناريو الثاني، فهو رضوخه المؤقت لنهج ترامب عبر تقليل التصعيد. إلا أن هذا الخيار لا يُعد مخرجاً حقيقياً، لأن نتنياهو لا يملك مشروعاً واضحاً يلتقي مع الرؤية الأمريكية الجديدة في إدارة ترامب. وبالتالي، فإن أي تراجع في هذه المرحلة سيزيد من اهتزاز صورته داخلياً، ويُعمّق الشكوك حول قدرته على القيادة، وهي شكوك تتفاقم أساساً بفعل الانقسامات الحاصلة في الداخل. وبالرغم من محاولاته المتكررة لضبط المشهد، إلا أن الانفجار يبدو وشيكاً. وهكذا، فإن الخُلاصة تفرض نفسها: نتنياهو في أسوأ لحظاته السياسية، وأي خيار يتخذه سيكون محمّلاً بتبعات تضره، في ظل غياب رؤية سياسية واضحة، ما يُنذر بتعقيد الأزمة لا حلّها.
الكاتب: غرفة التحرير