دوافع السيد حسن نصر الله لنصرة القضية الفلسطينية تنبع من تضافر ثلاثة أبعاد رئيسية: بُعد أخلاقي-ديني يعتبر الدفاع عن فلسطين واجبًا شرعيًّا، وبُعد إنساني يرفض الظلم ويدافع عن كرامة الإنسان، وبُعد فطري يرى في مقاومة الاحتلال استجابة طبيعية للضمير البشري السليم. هذه المنظومة المتكاملة هي التي تشكل الإطار الفكري والسياسي لمواقفه من الصراع العربي-الإسرائيلي.
طبقًا لتعريف مفهوم "الفطرة" في الفلسفة الإسلامية، والتي تعني الطبيعة الإنسانية السليمة التي تميل إلى الخير وتنبذ الشر والظلم. يرى (السيد نصر الله)، أن دعم فلسطين ونصرة شعبها هو استجابة طبيعية وفطرية لكل إنسان سوي يرفض رؤية شعب يُقتلع من أرضه ويُحرم من حقوقه الأساسية، وتتجلى هذه الفكرة في تأكيده على أن مقاومة الاحتلال هي "حق طبيعي ومشروع لا يحتاج إلى تبرير قانوني أو سياسي معقد، بل هو نابع من غريزة الدفاع عن النفس والكرامة والوجود."، يحلل بعض الباحثين في الحركات الاجتماعية هذا النوع من الخطاب على أنه محاولة لتأصيل موقف أخلاقي في اللاوعي الجمعي العالمي، بحيث يصبح دعم فلسطين ليس مجرد خيار سياسي، بل هو ضرورة تفرضها الطبيعة البشرية السوية، هذا الخطاب الفطري يهدف إلى جعل القضية جزءًا من الهوية الذاتية لكل فرد، بحيث يشعر بالمسؤولية الشخصية تجاهها، انطلاقًا من إنسانيته المجردة، يقول (السيد نصر الله): "هذه هي أيها الإخوة والأخوات جبهتنا الشريفة الإنسانية الأخلاقية التي نتضامن فيها وندعم فيها ونساند فيها ونُدافع فيها عن المظلومين وعن المعذبين وعن المعتدى عليهم في غزة وفي فلسطين المحتلة ... إن جوهر كربلاء وعاشوراء أن ننتصر للمظلوم ولصاحب الحق المعتدى على حقه، وهنا نحن ننتصر لفلسطين، لقطاع غزّة المظلوم، للضفة الغربية ولشعبنا المعتدى عليه في لبنان".
ثم تتجاوز دوافع (السيد نصر الله) الإطار الديني لتشمل بُعدًا إنسانيًّا عالميًّا، يركز على مفهوم "الظلم" و"العدالة". حيث نجد في العديد من خطاباته استعراض تفصيلي للمعاناة اليومية للشعب الفلسطيني من قتل، وتهجير، وحصار، واعتقال، واصفًا هذه الممارسات بأنها جرائم ضد الإنسانية تتنافى مع أبسط المبادئ الأخلاقية التي يقرها الضمير البشري، ويستند هذا الخطاب إلى مبدأ عالمي يتمثل في رفض الظلم ورغبة فطرية الدفاع عن "المستضعفين" في الأرض؛ يشير الأكاديمي (أوغسطس ريتشارد نورتون - Augustus Richard Norton) إلى أن خطاب حزب الله غالبًا ما يؤطر الصراع ليس فقط كقضية إسلامية، بل كقضية إنسانية تهم كل أحرار العالم، وذلك من خلال التركيز على الجانب الإنساني، الذي من خلاله يسعى (السيد نصر الله) إلى حشد دعم يتجاوز الحدود الدينية والطائفية، ويخاطب الضمير العالمي، مقدمًا المقاومة على أنها ردُّ فعلٍ مشروعٍ على عدوانٍ غير إنسانيٍّ، يقول (السيد نصر الله): "ما جرى ويجري على الناس في قطاع غزّة... يجب أن يهز ضمير كل إنسان في هذا العالم، يجب أن يزلزل وجدان كل الناس في هذا العالم، ويجب أن يستشعروا المسؤوليّة ماذا يجب عليهم أن يفعلوا اتجاه هذا العدوان وهذه الكارثة الإنسانيّة، إنسانيًا وأخلاقيًا ماذا يجب أن يقولوا وماذا يجب أن يفعلوا وأن يعملوا، لكن الأهم أيها الأخوة والأخوات هي المسؤوليّة أمام الله سبحانه وتعالى".
وصولًا إلى الدائرة الأكثر خصوصيّة، وهي المرجعية المركزية في دعم (السيد نصر الله) للقضية الفلسطينية من منطلق ديني-إسلامي وسياسي-إسلامي؛ فالمقدسات الإسلامية، والدفاع عنها وعن أرض فلسطين يُعتبر واجبًا بالمفهوم الشرعي، يجعل هذا الدعم من يندرج ضمن مفهوم "الجهاد" بمعناه الواسع، الذي لا يقتصر على القتال، بل يشمل نصرة المظلومين ومقاومة المحتل ولو بالموقف والكلمة، وهو ما يمثل التزامًا أخلاقيًّا ألزم به الشهيد نفسه تجاه "الأمة الإسلامية" جمعاء، ما يجعل العلاقة مع فلسطين ليست مجرد تضامن سياسي عابر، بل هي جزء من الهوية الدينية والعقائدية التي لا يمكن التنازل عنها. ويُقدّم (السيد نصر الله) الصراع على أنه مواجهة بين "الحق" المتمثل في الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، و"الباطل" المتمثل في الاحتلال الصهيوني، وهو ما يضفي على الموقف بُعدًا أخلاقيًّا مطلقًا يتجاوز الحسابات السياسية الآنية، يقول في مواقف مختلفة من خطاباته: "... نُجدد نفس الخطاب، نفس المضمون النفسي والروحي والفكري والعقائدي: ألا إنّ الدعي ابن الدعي، هذا الإسرائيلي، هذا الموجود غير الشرعي، ولذلك هو دعي ابن دعي، لأن أميركا أيضاً موجود غير شرعي." ، وفي خطاب آخر: "... للحسين الذي يحضر اليوم في كلّ جبهات صراع الحق مع الباطل، قيمه، موقفه، دين جدّه، أمة جدّه، في غزّة، في الضفّة، في فلسطين، في اليمن، في العراق، في لبنان، في جبهة جنوب لبنان، في كلّ الجبهات وفي كلّ الساحات وفي كلّ الميادين، نقول له ما تركتك يا حسين".
وبصفته عالم دين، وقائدًا لفصيل جهادي إسلامي تأسست أفكار (السيد حسن نصر الله) حول القضية الفلسطينية وعملية طوفان الأقصى بشكلٍ أساسيٍّ على مجموعة من الأصول الشرعية والعقائدية التي تشكل رؤية فلسفية شاملة مبنية على أساس من الاجتهاد الفقهي في مسائل الدين الإسلامي، ستحاول هذه الدراسة المرفقة أدناه، استعراض هذه المباني استنادًا إلى المدرسة الدينية التي انتمى لها السيد الشهيد (حوزة قم)، محاولين الربط بين هذه الأصول وما يقابلها من أفكار أساسية في خًطَبِه في فترة حرب طوفان الأقصى وحتى شهادته المباركة.
وقد آثرنا أنه كلمنا أصّلنا فقهيًّا لموقفٍ أو حركةٍ أو فكرةٍ طرحها (السيد حسن نصر الله)، فإننا نوثّقها في الهامش على مباني مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك على مباني ومصادر المدارس الفقهية للمذاهب الأخرى، حتى يمكن قراءة مواقفه وفكره في الإطار الإسلامي الجامع، ثم دمجنا في ذلك الاقتباسات والأفكار التي تتفرع عن هذه الأصول، وهي وإن كانت تتسم بطابع العمومية واستخدام المصطلحات الإعلامية الدارجة مراعاةً للجمهور المخاطَب، إلا أننا سنحاول الربط بين جوهر هذه الأفكار مع الأسس والأصول الفكرية التي تم سردها بشكل تفصيلي.
آملين أن تكشف هذه الدراسة عن بعض الجوانب الغائبة إعلاميًّا في شخصية الشهيد.
لتحميل الدراسة من هنا
الكاتب: الشيخ شادي علي