الجمعة 27 حزيران , 2025 11:44

ما بعد قصف "العديد": هل تعيد واشنطن رسم خريطة قواعدها في الشرق الأوسط؟

بعد الحرب الاسرائيلية الايرانية التي استمرت 12 يوماً، والتي شاركت فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر عبر استهداف المنشآت النووية في إيران، جاء الاستهداف الصاروخي الايراني لقاعدة العديد في قطر، لتدشن واقعاً جديداً في معادلة الأمن الاقليمي يرتكز على سؤال جوهري: هل تعيد واشنطن رسم خريطة قواعدها العسكرية في الشرق الأوسط؟

قصف قاعدة العديد -التي تعد من أكبر القواعد الأميركية في العالم، وتستضيف مقر القيادة المركزية للقوات الأميركية (CENTCOM)- لم يكن مجرد ردٍّ عسكري على تورّط واشنطن في العدوان الإسرائيلي، بل خطوة سياسية تكسر ما اعتُبر لسنوات طويلة "قواعد اشتباك غير مكتوبة". فقد ظلّت هذه القاعدة، شأنها شأن الظفرة في الإمارات أو معسكرات الكويت، بمنأى عن النيران المباشرة في الصراعات الإقليمية، رغم كونها ركيزة لوجستية وعسكرية في معظم الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ 2001، كالعراق وأفغانستان.

الهجوم الإيراني، حتى وإن لم يُحدث دماراً واسعاً، كشف عن نقطة ضعف حساسة في منظومة الردع الأميركية: أن القواعد الثابتة، مهما بُنيت بطريقة محصنة لم تعد خارج مرمى النيران.

لسنوات، استند الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط إلى رؤية تبلورت بعد هجمات 11 أيلول: عدو غير متماثل (تنظيمات إرهابية)، قواعد ضخمة آمنة في دول حليفة، معارك تُخاض عن بعد، وتعاون أمني واستخباراتي واسع مع العواصم الخليجية.

لكن بعد عقدين من الزمن، تغيرت طبيعة الخصوم. فإيران مثلاً، أصبحت قوة قادرة على تنفيذ ضربات دقيقة وبعيدة المدى باستخدام صواريخ ومسيرات يصعب اعتراضها بالكامل، حتى داخل مختلف دول الاقليم، او كيان الاحتلال أيضاً. كما أن البيئة الإقليمية باتت أكثر اضطراباً، والمجال الجوي والبحري أكثر هشاشة، والممرات البحرية الحيوية أكثر عرضة للتهديد.

أمام هذه التطورات، تجد واشنطن نفسها أمام ثلاثة مسارات رئيسية:

الاستمرار على النهج ذاته مع تعزيز الدفاعات: ويتطلب هذا ضخ استثمارات ضخمة في تحديث الأنظمة الدفاعية في القواعد، وتطوير قدرات الاستخبارات والإنذار المبكر. وهو خيار مكلف ويواجه تحديات تقنية وعملياتية، خاصة في حال تعرض القواعد لضربات متزامنة من أكثر من جبهة.

إعادة توزيع وانتشار القوات: يتضمن هذا الاتجاه التخلي التدريجي عن القواعد الضخمة لصالح شبكة قواعد أصغر، متنقلة أو ذات طابع لوجستي محدود (ما يُعرف بـ"قواعد الزنبق" أو lily pad bases)، موزعة في دول متعددة، مما يقلل من المخاطر المركزة على منشأة واحدة.

الاعتماد على الشركاء الإقليميين والاكتفاء بالردع البحري والجوي: من خلال تقليص الانتشار البري والتركيز على الحضور البحري في المحيط الهندي والبحر الأحمر، وربما شرق المتوسط، مع الإبقاء على قواعد للتجسس والمراقبة دون تمركز قوات قتالية كبيرة.

الدول الخليجية، التي لطالما وفّرت الأرض والدعم للوجود الأميركي، تواجه معادلة أكثر تعقيداً. فقطر مثلاً -التي استُهدفت أراضيها لأول مرة- مضطرة لإعادة تقييم تبعات استضافة أكبر قاعدة أميركية في العالم، خاصة إذا تحوّلت إلى نقطة اشتعال محتملة في أي صراع مستقبلي مع إيران أو أطراف إقليمية أخرى.

الأمر نفسه ينسحب على الإمارات والبحرين والكويت، التي تدرك أن القواعد الأميركية باتت "أصولاً استراتيجية عالية المخاطرة"، وقد تحمل أثماناً سياسية أو أمنية باهظة في حال تحوّل الخليج إلى ساحة مواجهة مباشرة.

على ما يبدو، أن إعادة رسم خريطة الانتشار العسكري الأميركي في المنطقة لم تعد مسألة رفاهية، بل ضرورة استراتيجية يفرضها الواقع الجديد. اذ أن واشنطن لم تعد تقاتل مجموعات صغيرة، بل دولاً تمتلك قدرات صاروخية ومسيرات هجومية وشبكات إقليمية واسعة، قادرة على تحويل قواعدها إلى أهداف مباشرة، وقد أثبتت الحرب الأخيرة هذا الامر.

كما أن أولويات الأمن القومي الأميركي تغيّرت. فالمنافسة مع الصين، ومحاولة كبح طريق الحرير، والتحديات في بحر الصين الجنوبي، كلها تدفع واشنطن إلى تخفيف أعبائها في الشرق الأوسط، شرط ألا تخسر أدوات السيطرة على الممرات الحيوية للطاقة والتجارة.

يمكن اعتبار تجربة قصف "العديد"نقطة تحوّل تعيد تعريف العلاقة بين القواعد العسكرية الأميركية والسيطرة التي ترغب بفرضها. لم يعد بإمكان واشنطن الافتراض أن حضورها العسكري هو عنصر ردع تلقائي. بل بات عليها التفكير بجدية في مستقبل هذا الوجود، ليس فقط من حيث الشكل والموقع، بل من حيث الوظيفة والدور في نظام عالمي يتغيّر بسرعة.

بالتالي، قد تكون المرحلة المقبلة هي مرحلة "الردع المتنقل"، حيث المرونة والانتشار الذكي يحلان محل التمركز الجامد في القواعد. وهذا ما ستكشفه الأشهر القادمة، في ظل اختبار مستمر لما إذا كانت القواعد الأميركية لا تزال مصدر قوة، أم عبء استراتيجي قابل للاستهداف.


الكاتب:

مريم السبلاني

-كاتبة في موقع الخنادق.

-ماجستير علوم سياسية.




روزنامة المحور