في ظل الأحداث المتسارعة التي تشهدها المنطقة، وحالة عدم اليقين التي تلف عدد من القضايا خاصة تلك التي ترتبط بالحرب بين إسرائيل وإيران والتي وصلت إلى مستوى تصعيد غير مسبوق جرى خلاله استهداف قاعدة العديد الأميركية، بعد استهداف قاعدة عين الاسد في العراق غير مرة وتهديد القواعد الأخرى المنتشرة، تبدل أولويات الادارات الاميركية، يجري الحديث عن خيارات بديلة يمكن فيها للولايات المتحدة أن تخفض من تكلفة وجودها مع الحفاظ على نفوذها. وبين دعوات الانكفاء والانخراط، هناك من يتبنى خيار نقل المسؤولية إلى الحلفاء وتمكين القطاع الخاص من إدارة جزء من المهام الأمنية والعسكرية.
ليست المرة الأولى التي يلوّح فيها ترامب بهذه الفكرة. فمنذ ولايته الأولى، لطالما عبّر عن استيائه من "الدفاع المجاني" عن دول الخليج، مشيراً في أكثر من مناسبة إلى أن الحماية الأميركية يجب أن تكون بمقابل. ومع عودته، تعود هذه الفكرة من جديد في ظل الانشغال بأولويات أخرى كالصين وضغوط الداخل الأميركي.
لا تملك واشنطن ترف الانسحاب الكامل من المنطقة وفق تقديراتها، لأن أي فراغ ستخلفه سيرثه لاعبون آخرون. لكنها في المقابل لا تريد دفع فاتورة الانتشار الدائم المكلف والمعرض للخطر. هنا تبرز الخصخصة كخيار مطروح: تقليص الحضور الرسمي، وتوسيع الاعتماد على متعاقدين أمنيين وشركات خاصة تعمل تحت غطاء القانون الأميركي ولكن خارج العبء السياسي والعسكري المباشر.
في العراق، استخدمت الولايات المتحدة شركات مثل "بلاك ووتر" لحماية الدبلوماسيين والمنشآت. وفي أفغانستان، أُنيطت العديد من المهام اللوجستية والاستخباراتية بشركات خاصة. لكن الجديد قد يكون برغبة في توسيع هذا النموذج باعتباره مجالاً اقتصادياً–أمنياً يجب ضبطه بتكلفة منخفضة.
في هذا الإطار، يمكن طرح السيناريوهات التالية:
-تحويل بعض القواعد الأميركية إلى منصات تشغيلية تُدار لوجستياً من شركات خاصة (مثل الصيانة، الدعم الفني، الأمن الداخلي).
-إسناد مراقبة المنشآت النفطية، الموانئ، وحتى خطوط الملاحة، إلى شركات متعددة الجنسيات بعقود أمنية متقدمة.
-استخدام شركات استخبارات خاصة لجمع المعلومات وتقديمها للقيادة المركزية الأميركية، ما يقلل الحاجة للوجود البشري الأميركي الدائم.
هذه السياسة تضع دول الخليج أمام اختبار استراتيجي. اذ لا يمكن الاستغناء عن المظلة الأميركية التي توفر نوعاً من الردع والدعم، خصوصا بعد الانكشاف الجوي الذي أظهرته الحرب الأخيرة.
بالتالي، قد نشهد تزايداً في لجوء الدول الخليجية إلى شركات أمن خاصة أميركية أو إسرائيلية، لتأمين منشآتها أو دعم قواتها الداخلية. وقد تبدأ بعض العواصم بإعادة تشكيل بنيتها الدفاعية وفق متطلبات الشركات المتعاقدة، وليس العقيدة العسكرية الوطنية.
رغم ما يبدو من مرونة في هذا النموذج، إلا أن خصخصة الأمن ليست بدون تبعات:
-فقدان السيطرة: الاعتماد على شركات أجنبية في مهام حساسة يعني فقدان جزء من القرار السيادي.
-إفلات من العقاب: سجل الشركات الأمنية في العراق وأفغانستان يكشف عن تجاوزات وانتهاكات لم يُحاسب أحد عليها.
-ضعف الردع: وجود الجندي الأميركي له رمزية تفوق أي شركة متعاقدة؛ الخصخصة قد تفسر كعلامة تراجع أو انسحاب.
في سياق التصعيد الأخير بين إيران وكيان الاحتلال، فإن خصخصة الأمن قد تُستخدم كأداة "تهدئة أو مراوغة". إذ تسمح لواشنطن بالتراجع التكتيكي عن خطوط النار الأمامية، دون الظهور بمظهر المنسحب. كما أنها توفّر هامشاً لإسرائيل للتحرك منفردة، دون أن يُحمَّل البيت الأبيض كلفة كل خطوة عسكرية.
لكن هذه المعادلة، وإن بدت مغرية على الورق، تبقى محفوفة بالمخاطر. إذ أن الاعتماد على "الردع بالوكالة"، سواء عبر حلفاء أو شركات، لا يصمد طويلاً أمام خصم يؤمن بفكرة "الرد المباشر"، كما أظهرت إيران مؤخراً في الخليج وفي البحر الأحمر. في نهاية المطاف، قد تكتشف واشنطن أن الخصخصة تصلح لإدارة منشأة، لا لاحتواء منطقة تقبع على صفيح ساخن.
الكاتب: غرفة التحرير