تنقّلت حذاقة الموقف الإيرانيّ بين صبر وردع وفعل استراتيجيّ، حتى أذهلَ دهاة السياسة وجنرالات الجيوش في العالم.
بعد انتصار الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة في العقد ما قبل الأخير من القرن الماضي، وعلى مدار سنوات الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة من دستورها إلى مداها الذي تصل إليه، لم تتوان عن بناء قدراتها بجسارة وإتقان، ولم تقصّر في الوقوف مع المستضعفين وحركات المقاومة في العالم، رغم الحرب والحصار والعقوبات والاغتيالات ونشر الفوضى والتخريب وجعلها في محور الشر والإرهاب بعين الهيمنة العالميّة التي تجثم بقواعدها العسكريّة والاستخباريّة، وتغذّي التناقضات وتتحكّم بميزان الاجتماع السياسيّ الأهليّ والمدنيّ.
مقابل ذلك، استطاعت إيران تحويل مكاسب ثورتها إلى مورد تنتفع به الشعوب، ولا تعيق تصديره حدود الهيمنة والاستحواذ المفروضة، بل أصبحت تلك الهيمنة الاستكباريّة مبرّر المقاومة وموجب انتشارها وتفاعلها بالضرورة. وأنتجت بتفاعلها مع الشعوب الناهضة عقيدةً وفعلًا مقاومًا ممتدًّا، حصد مع الوقت انتصارات وصدّ مؤامرات وبلغ ذروته مؤخّرًا بالاصطدام المباشر.
أطلقت إيران الإسلاميّة شرارة "موجتها الثوريّة الثانيّة" على طريق القدس في الربع الأوّل من القرن الحاليّ، من موقع الدفاع عن النفس، ووفق المعاهدات والقوانين الدوليّة المرعيّة الإجراء، عند ارتكاب النظام الصهيونيّ المتوحّش فجر الجمعة 13 حزيران 2025م، بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الأميركيّة، جريمةً صارخةً وغير مسبوقة بشن هجوم عسكريّ غير قانونيّ على أهداف قياديّة ومنشآت عسكريّة ونوويّة سلميّة فيها. وأكّدت البعد القيميّ والإخلاقيّ في مصداقيتها كدولة منسجمة مع مبادئها، من خلال المقاومة ورفض المذلّة.
معالم من مواجهة "الأسد الصاعد"
واجهت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الحملة العدوانيّة بتماسك مجتمعيّ سياسيّ منقطع النظير، استوعبت مباغتة العدو ونجاحه في اصطياد قياداتها العسكريّة وعلماء الذرّة والطاقة، ونيله من بعض قدراتها الصاروخيّة ومنشآتها النوويّة ومراكزها العسكريّة والأمنيّة. ثمّ سرعان ما باشرت إنزال الويلات غير المسبوقة بتاريخ الكيان الصهيونيّ، ونجحت في يوميّات العدوان وسير العمليّات من إسقاط المسيّرات وخداع الطائرات، وتعاملت بسرعة مع عشرات الشبكات المعادية والمنظّمة داخلها بحزم وسطوة، كما برهنت عن قدرتها العالية في المناورة وبلوغها مبتغاها بدقّة من خلال عملية الوعد الصادق "3" التي شهدت 22 موجة صاروخيّة باليستيّة وفرط صوتيّة، ضد البنية التحتيّة والمراكز الاستراتيجيّة ومصالح النظام الصهيونيّ، كاسرة التعتيم الإعلاميّ عند العدو، حيث تسرّبت مشاهد الدمار الهائل لأهدافها الحسّاسة فيه مع ترسيخ صورة الهروب الجماعيّ في العقل الجمعيّ الإسرائيليّ.
حرصت إيران الإسلاميّة أن تتفرّد بالردّ وأن تباشره بنفسها، وبالاكتفاء بتفعيل جزء من قوّاتها المسلّحة، دون مؤازرة حليف أو استجداء تعاون دوليّ أو تفعيل صلات وقدرات متاحة ويسيرة للانخراط.
وضعت إيران الإسلاميّة سيناريوهات التصعيد ومستوياته المتعدّدة ومراحله في كلّ سيناريو مفترض، ودأبت وفق عقيدتها الدفاعيّة باعتماد استراتيجيّات الاستنزاف والتدرّج المتناسب والانتقال غير المنفعل من وضعية إلى أخرى والتحكّم في القرار بعدم إعطاء الذرائع ما أمكن لتجاوز ميزانها الدقيق المحسوب، مع مراعاة كافة الأبعاد كدولة قانون وسيادة معتدى عليها، وتمارس أدوارها الدبلوماسيّة الجهاديّة باحترافيّة بموازة عمليّاتها العسكريّة والأمنيّة.
أعاقت فائض السيطرة والنفوذ عند الكيان الصهيونيّ، وتطلّعه لاستحداث خريطة أمنيّة جديدة عبر قناعته المستجدّة بتوسّع المفهوم الأمنيّ الإسرائيليّ لديه، حيث يشتمل على الشرق الأوسط برمّته، انطلاقًا من مبدأ تحقيق الإزدهار في المنطقة عبر القوّة والتوازن التكافؤيّ بين التكنولوجيا والعقل البشريّ.
وأعادت التوازن في حلقات الصراع لصالح جبهة المقاومة ومعنويات جماهيرها، بعدما تعرّضت الجبهة لأشد الضربات التي ظنّ بموجبها الكيان الصهيونيّ ومن ورائه الإدارة الأميركيّة أن إيران في أضعف حالاتها، وبالتالي هذا هو الوقت المناسب لافتراسها وإسقاط السند الإقليميّ والقاعدة المركزيّة لحركات المقاومة، ما يعادل بالضرورة إسقاط القضيّة الفلسطينيّة إلى الأبد.
"بشارة الفتح" ومكر العدو
أحسنت إيران الإسلاميّة اختيار استهداف قاعدة العِديد الأميركيّة في قطر، حيث تعدّ مقر القيادة المركزيّة (CENTCOM) ، وهي القيادة التي تشن العدوان على إيران، والمقرّ الأمامي للقيادة المركزيّة للقوات الجويّة الأميركيّة (AFCENT) وقيادة العمليّات الجويّة المشتركة في منطقة غرب آسيا (الشرق الأوسط)، وأكبر رصيد إستراتيجيّ للجيش الأميركيّ، وتعدّ أكبر منشأة أمريكية في "الشرق الأوسط"، يتمركز فيها نحو 10 آلاف جندي، ولديها طاقة استيعابيّة تفوق 100 طائرة في وقت واحد. وتستخدمها القوات الجويّة الملكيّة البريطانيّة والقوات الجويّة القطريّة، وبالتالي فإن استهدافها يشكّل ضربة نوعيّة لجبروت أميركا ولقدراتها الجويّة في المنطقة ككل.
أبرقت إيران الإسلاميّة برسائلها الواضحة، من خلال استهدافها قاعدة العِديد الأميركيّة في عمليّة "بشارة الفتح"، بأن القواعد الأميركيّة باتت تشكل عبئًا أمنيًا على الدول الحليفة للولايات المتحدة، وبأن أمن الخليج ودوله والملاحة فيه هي من مسؤوليّة الدول المتشاطئة عليه دون غيرها، ولا حاجة لوجود قواعد عسكريّة أجنبيّة فيه، وأنّها باتت تشكّل الخطر الحقيقيّ على دوله، وبأن جبهة المقاومة التي تقودها إيران ما تزال قوية.
أكّدت الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة أن التكنولوجيا النوويّة السلميّة الإيرانيّة لا يمكن تدميرها أو إيقاف نمو صناعتها الوطنيّة لها، واتضح أن برنامجها الصاروخيّ عصيّ عن العطب أو التدمير.
وبذلك، أمام مواجهتها "الأسد الصاعد" بمتوالية موجات الوعد الصادق وعمليّتها "بشارة الفتح"، كرّست إيران صدارتها في الإقليم وكسرت عزلتها بقوّتها، وأضافت إلى سجلّها صمودًا إعجازيًّا جديدًا ونصرًا تاريخيًّا في جولة من جولات الصراع، سيفرض نتائجه "الجيوسياسيّة" على خريطة العالم الجديد، حيث كبحت الاندفاعة الأميركيّة- الإسرائيليّة للقضاء على المقاومة في "الشرق الأوسط"، وعرقلة مساعي التفرّغ لفرض معادلات إقليميّة دوليّة جديدة انطلاقًا منه.
ما ينذر باندلاع مواجهات جديدة في ساحات أخرى داخله قد يكون اليمن محط التركيز في قابل الأيام، مضافًا إلى استمرار المجزرة في فلسطين المحتلّة، واستمرار الرصد المعلوماتيّ والاستخباريّ على إيران وسائر ميادين جبهة المقاومة مع تنفيذ الأعمال العدائيّة الأمنيّة عليها، فضلًا عن توظيف آليات الضغوط القصوى، وترميم الخلل الذي كشفته الحرب، وتزويد الكيان الصهيونيّ بمنظومات جديدة من الحماية، وتهيئة الحلف الدوليّ، ثمّ القيام بحملة عدوانية مباغتة جديدة بتوقيت مناسب يقطع الطريق على ما لم تحصده الموجة الأولى، ومنها اغتيال السيد الخامنئي وقادة آخرين، لاستكمال الأغراض الاستحواذيّة التوسّعيّة على المسرح الدوليّ، وهو ما يستدعي بالمقابل جهوزيّة جبهة المقاومة للنزال المرتقب، بمعالجة الخلل ومفاجأة العدو وإنزال الكبت به.