الأربعاء 06 آب , 2025 03:05

نموذج الجنوب العالمي في التحرر من الهيمنة الأميركية

الجنوب العالمي يعيد رسم نظامه بعيداً عن أميركا

خلال العقود الماضية، ارتبطت مكانة دول الجنوب العالمي بموقعها من القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. كانت المساعدات، التحالفات، وحتى المشاركة في المنظمات الدولية، تدور بمعظمها ضمن فلك أميركي مباشر أو غير مباشر. لكن هذا الواقع بدأ يتغير.

الانكفاء الأميركي، خصوصاً في عهد دونالد ترامب، لم يخلق فراغاً تنتظر دول الجنوب من يملأه، بل ولّد ديناميّة جديدة: الاعتماد على الذات. هذه الدول لم تعد ترى في واشنطن "الضامن الوحيد" لاستقرارها أو نموّها. بالعكس، كثير منها بات يدرك أن المبالغة في التعويل على الخارج تفتح الباب للخضوع، والتبعية، وحتى الابتزاز السياسي.

الانكفاء الأميركي

التحول الأميركي لم يكن مجرّد موقف سياسي عابر. الانسحاب من ملفات الصحة والتعليم، تقليص برامج التنمية، التلويح بالحروب التجارية، والانسحاب من الأطر الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية… كلها مؤشرات على توجه استراتيجي طويل الأمد، يجعل الدول التي كانت تعتمد على واشنطن تعيد حساباتها بعمق.

لم تنتظر دول الجنوب قرارات جديدة من البيت الأبيض، بل بدأت فعليًا بتشييد بدائلها: نظم دفع إقليمية، مثل، صناديق استثمار وتنمية بقيادة آسيوية أو أفريقية، وحتى اتفاقات في مجالات التكنولوجيا والمناخ خارج الإطار الغربي التقليدي.

الاستقلال الهادئ

ما يميز هذا التوجه أنه لا يقوم على الصدام مع أميركا، بل على تجاوزها. فدول الجنوب لا تسعى إلى بناء محور مناهض للغرب، بل إلى تنويع شركائها وامتلاك أدواتها. كما تريد أن تكون قادرة على التعامل مع واشنطن أو بكين من موقع متكافئ، لا كمستَقبِل للأوامر أو الدعم المشروط.

ماذا يعني ذلك لأميركا؟

الولايات المتحدة، التي اعتادت أن تدير العالم من موقع مركزي، تواجه اليوم واقعاً مختلفاً. إذا استمرت بالنظر إلى الجنوب العالمي كأرض تنافس مع الصين فقط، فإنها ستخسر فرصة فهم التحول الحقيقي.

التحالف مع واشنطن: شراكة هشّة

عصر دونالد ترامب كشف بوضوح أن التحالف مع الولايات المتحدة لم يعد رهاناً مضموناً، بل بات علاقة هشّة تخضع للمزاج السياسي والإدارات المتعاقبة. انسحاب واشنطن من أدوارها التقليدية كضامن دولي، وتخليها عن التزاماتها في ملفات الصحة والتنمية، أرسل رسالة صادمة حتى لحلفائها التاريخيين: الاعتماد على أميركا خيار غير آمن.

تصاعد النزعة القومية في الخطاب الأميركي، وتنامي "الحمائية" الاقتصادية، وتهجم إدارة ترامب على مؤسسات مثل الأمم المتحدة وحلف الناتو، كلها دلائل على تراجع الالتزام الأميركي تجاه الشراكات متعددة الأطراف. والأسوأ أن المساعدات الأميركية باتت مشروطة، متقلّبة، وقابلة للتجميد أو الإلغاء لأسباب سياسية آنية، كما حدث مع عدة دول أفريقية وآسيوية.

في هذا السياق، بدأ العديد من دول الجنوب العالمي بإعادة حساباته، مدركاً أن الرهان على محور أميركا، يحمل مخاطر بنيوية. ومن هنا جاء التوجه نحو تنويع الشراكات، وبناء بدائل اقتصادية وتنموية، عبر تكاملات إقليمية مستقلة. فالخروج من التبعية الأميركية ضرورة استراتيجية لحماية السيادة الوطنية من تقلبات السياسة الأميركية.

إيران: نموذج ناجح في مقاومة الهيمنة الأميركية

منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، اختارت إيران أن تسلك مساراً مغايراً تماماً لعلاقات التبعية التي كانت تحكم علاقتها بالولايات المتحدة في عهد الشاه. قطعت طهران علاقاتها مع واشنطن، وطردت المستشارين الأميركيين، وصادرت أصولاً ومؤسسات كانت تمثل رمزاً للنفوذ الأميركي في البلاد. ورغم العقوبات الاقتصادية الخانقة والعزلة السياسية التي فُرضت عليها لعقود، استطاعت إيران أن ترسّخ استقلالها السياسي وتحافظ على قرارها السيادي في وجه الضغوط الخارجية.

نجحت إيران في بناء منظومتها الدفاعية محلياً، وراكمت خبرات علمية وتكنولوجية مكنتها من تطوير برنامج نووي، وبرنامج صاروخي مستقل. كما دعمت حركات المقاومة ضد كيان الاحتلال في لبنان، فلسطين، وسوريا، ما عزّز مكانتها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.

اللافت في التجربة الإيرانية أنها لم تبحث عن بديل استعماري أو وصيّ جديد، بل نسجت شبكة علاقات مع قوى كبرى كروسيا والصين، دون أن تُخضع قرارها الوطني لمصالح تلك الدول. لقد أظهرت أن مقاومة الهيمنة لا تعني العزلة، بل يمكن أن تترافق مع سياسة خارجية فاعلة ومؤثرة، بشرط امتلاك مشروع ذاتي واضح، وقدرة على الصمود أمام الضغوط. تمثل إيران نموذجاً لدولة من الجنوب العالمي استطاعت أن تفرض معادلتها الخاصة.

الجنوب العالمي لم يملأ فراغ الانكفاء الأميركي بحليف بديل، بل بنى أدواته بنفسه. وهذا ما يُعرف بالتأسيس لمنظومة دولية جديدة، تناسب التوجهات الحالية لهذه الدول وتكون "أقل خضوعاً، وأكثر استقلالاً". وهذا ما يمكن لدول مثل لبنان تخضع حالياً للهيمنة الأميركية والتبعية من فعله للتحرر من هذه الضغوط.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور