الأربعاء 27 آب , 2025 03:43

أصوات أميركية تتبدل: بين إرهاب الاحتلال وتحولات الكونغرس

اعتراضات في الكونجرس على ممارسات الاحتلال في فلسطين

منذ أشهر، يعيش قطاع غزة واحدة من أشد الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، حيث تحوّل الحصار الإسرائيلي إلى سياسة تجويع ممنهج. عشرات التقارير الأممية والحقوقية تتحدث عن منع وصول المواد الغذائية والمياه، واستهداف المدنيين أثناء انتظارهم المساعدات. حيث باتت صور الأطفال الذين يموتون جوعاً، والأهالي الذين ينتظرون في الصفوف للحصول على كيس طحين تظهر حجم الإرهاب الإسرائيلي وتتصدر نشرات الأخبار الأميركية وتترك أثراً في الرأي العام.

وفي الضفة الغربية، لم يكن الوضع أفضل. حيث صعّد المستوطنون من اعتداءاتهم ضد الفلسطينيين، بما في ذلك الاعتداءات التي أودت بحياة أميركي من أصل فلسطيني مؤخراً. هذه الأحداث وضعت الإدارة الأميركية في موقف محرج أمام مواطنيها، الذين يتساءلون كيف يمكن لبلادهم أن تستمر في دعم حكومة تُتهم علناً بارتكاب جرائم إبادة جماعية.

النتيجة المباشرة لهذا المشهد أن الرأي العام الأميركي، وخصوصاً بين الأجيال الشابة واليسار التقدمي، بدأ يبتعد عن الموقف التقليدي المؤيد لكيان الاحتلال. هذا التحول الشعبي أجبر بعض السياسيين على إعادة النظر، لأن تجاهل المزاج الداخلي قد يعني دفع ثمن سياسي قد تكون أميركا بالغنى عنه.

 تحولات غير مسبوقة داخل الكونغرس

ما يثير الانتباه اليوم أن التحولات لا تقتصر على أصوات معروفة تاريخياً بانتقادها لسياسات الاحتلال، بل تشمل نواباً كانوا يُعتبرون من أشد المدافعين عن "إسرائيل". مثلاً النائبة الجمهورية مارجوري تايلور غرين، التي عُرفت مراراً بتصريحاتها المؤيدة للكيان، وصفت ما يحدث في غزة بـ "الإبادة الجماعية" لأول مرة في منشور لها على "إكس". هذا التحول بالتأكيد ليس ناتجاً عن اعتبارات إنسانية فقط، بل أيضاً اعتراضاً على السياسة الخارجية لإدارة ترامب، التي تورّطت بضربات على إيران خلال حزيران/يونيو 2024 رأت فيها غرين "استفزازاً غير مبرر" يزيد من مخاطر الانزلاق إلى حرب أوسع ويعارض سياسة النأي بالنفس بمعزل عن الحروب التي كان يروج لها ترامب.

على جانب الحزب الديمقراطي، يبرز النائب ريتشي توريس، المعروف بولائه ل "إسرائيل"، حيث واجه حملة من جماعات الضغط المؤيدة لها بعد دعمه لمرشح رئاسة نيويورك زهران ممداني، الذي يتبنى خطاباً ناقداً لنتنياهو. توريس، وإن لم ينقلب بشكل كامل على دعمه التقليدي ل "إسرائيل"، إلا أنه بدأ يعكس واقعاً جديداً داخل الحزب الديمقراطي، حيث لم يعد السكوت على سياسات الاحتلال مقبولاً لدى جزء كبير من القاعدة الانتخابية.

حتى السيناتور إليسا سلوتكين، وهي من الأصوات المعتدلة في الحزب الديمقراطي، خرجت لتنتقد علناً نتنياهو بعد مقتل أميركي في الضفة الغربية، مشددة على أن غياب المساءلة لم يعد مقبولاً. مثل هذه التصريحات لم تكن لتصدر قبل سنوات قليلة، وهو ما يعكس عمق التحول الجاري داخل الكونغرس.

سياسات نتنياهو بين الإرباك الداخلي والانعكاسات الخارجية

الجامع بين هذه التحولات هو قناعة متزايدة في واشنطن بأن سياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم تعد تخدم حتى مصالح "إسرائيل" نفسها، فضلاً عن أنها تُحرج الولايات المتحدة وتضعها في مواجهة مباشرة مع الرأي العام العالمي. سياسة الأرض المحروقة والتجويع، بدل أن تُضعف الفلسطينيين وتنهي حماس كما أراد الكيان، خلقت صورة مروعة عن إرهاب "إسرائيل" وحلفائها في العالم.

المشهد الأكثر قسوة الذي يتداوله الإعلام الأميركي اليوم والذي من المرجح أنه ساهم في هذا الرفض والتغيير في المواقف هو استهداف المدنيين العزل أثناء انتظارهم أكياس الطحين. هذه الصور أحدثت صدمة حتى بين النواب الذين اعتادوا الدفاع عن "إسرائيل"، وجعلتهم يتساءلون عن كلفة التحالف غير المشروط مع حكومة باتت تُجر الولايات المتحدة نحو المجهول. ففي لحظة يتحدث فيها الساسة الأميركيون عن "أميركا أولاً"، تبدو المغامرات الإسرائيلية عاملاً لتوريط واشنطن في صراعات لا مصلحة مباشرة لها فيها، سواء في غزة أو إيران أو أي جبهة أخرى. لذلك، لم يعد مستغرباً أن تُسمع في الكونغرس أصوات تعتبر أن استمرار الدعم المطلق للكيان يتعارض مع مبدأ حماية الأمن القومي الأميركي.

معادلة جديدة تتشكل

لا تعني التحولات الجارية أن الكونغرس الأميركي انقلب على "إسرائيل" بين ليلة وضحاها، ولا أن نفوذ اللوبي المؤيد لها قد تلاشى. لكن ما يتغير بوضوح هو أن صورة "إسرائيل" كحليف استراتيجي ثابت لم تعد محصّنة. فالإرهاب الممارس في غزة والضفة بدأ يهز أسس هذا التحالف، فيما يطرح النواب الأميركيون أسئلة عن كلفة الانحياز الأعمى. إذا استمرت سياسات نتنياهو على النهج ذاته، ومع استمرار مشاهد الجوع والدمار في غزة، يمكن القول إن الشرخ بين الرأي العام الأميركي وصناع القرار سيتسع أكثر، ما قد يفتح الباب أمام إعادة صياغة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية بشكل تدريجي.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور