تسعى "إسرائيل" إلى فرض ضم الضفة الغربية كأمر واقع حيث تعتبرها امتداداً استراتيجياً وأمنياً واقتصادياً لمشروعها الاستيطاني الذي لم يتوقف منذ احتلال عام 1967. فبالنسبة للمؤسسة الإسرائيلية، السيطرة على الضفة لا تعني فقط تعزيز الأمن عبر تطويق التجمعات الفلسطينية ومنع قيام دولة مستقلة قابلة للحياة، بل تتجاوز ذلك إلى بناء قاعدة ديموغرافية جديدة تعزز الغلبة الصهيونية في المنطقة. الضفة الغربية تمثل أيضاً بعداً اقتصادياً مهماً، فهي غنية بالمياه الجوفية والأراضي الزراعية، وتشكل عمقاً استيطانياً يمكن أن يدعم اقتصاد المستوطنات ويُبقي الفلسطينيين تحت "رحمة القيود الإسرائيلية". كما تلعب الضفة الغربية دوراً محورياً في العقيدة الصهيونية اليهودية، إذ تُعرف لديهم باسم "يهودا والسامرة"، وتُعتبر جزءاً من أرض "إسرائيل الموعودة". وهذا ما يجعل من الضفة هدفاً استراتيجياً للتيارات المتطرفة، بالأخص في ظل هيمنة اليمين المتطرف على إدارة شؤون الضفة الغربية، ممثلاً بشخصيات مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين يعملان على تكثيف الاستيطان. لكن الأخطر أن هذا الاستيطان والتوسع يُراد له أن يكون رداً عملياً على موجة الاعترافات الدولية بفلسطين، أي أن "إسرائيل" تحاول أن تقول للعالم: "على الرغم من قراراتكم ومواقفكم، نحن من يحدد الواقع على الأرض". وهكذا يصبح الضم أداة مزدوجة، من جهة لاستكمال مشروع "إسرائيل الكبرى" ومن جهة أخرى لتقويض أي مسار سياسي قد يمنح الفلسطينيين حقوقاً سيادية. كما يمارس هذا التوجه اليوم في ظل المجازر بغزة وعلى سياسة التجويع والتدمير، إذ يرى الكيان أن انشغال العالم بالكارثة الإنسانية يتيح له توسيع نفوذه في الضفة دون تغطية ومواكبة دولية كافية.
تحول في سياسات الاحتلال تجاه الضفة الغربية
الاستراتيجية الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تقوم على ضم شامل ومباشر لجميع المناطق دفعة واحدة، بل على مقاربة تدريجية تتيح لها فرض وقائع متباينة بحسب الأهمية الاستراتيجية لكل منطقة. فعلى سبيل المثال، إنشاء المستوطنات الكبرى في محيط القدس وداخل ما يُسمى بـ "غلاف القدس" تعدّ من أولويات الاحتلال، لأنها تضمن عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني. كذلك، مناطق الأغوار الشمالية تمثل أهمية بالغة باعتبارها العمق الأمني والحدود مع الأردن، وهو ما يمنح "إسرائيل" سيطرة عسكرية وزراعية ومائية شبه مطلقة. أما رام الله، التي لطالما اعتبرت (مركز السلطة الفلسطينية الإداري والسياسي)، فقد كانت سابقاً تُعامل كمنطقة أقل عرضة للاقتحامات الكثيفة، لكن العمليات العسكرية الأخيرة في قلبها – مثل تلك التي حدثت في 27 آب/أغسطس – تعكس تحولاً لافتاً في سياسة الاحتلال، إذ لم يعد يكتفي بمحاصرة الأطراف أو عزل المدن، بل يسعى إلى إيصال رسالة مفادها أن لا "حصانة" لأي منطقة في الضفة، حتى لو كانت العاصمة للسلطة الفلسطينية. بذلك، يبدو أن الاستثناءات السابقة تتآكل تدريجياً، وأن مشروع الاستيطان لا يستثني فعلياً أي جزء من الضفة.
هل ستؤثر عمليات الاستيطان على شعبية السلطة الفلسطينية؟
من الطبيعي أن أي تحول في ملامح الضفة الغربية، خصوصاً إذا مس مدينة مركزية مثل رام الله، سيترك انعكاسات مباشرة على موقع السلطة الفلسطينية وشعبيتها. فالسلطة لطالما قدّمت نفسها كأداة "للحفاظ على بقايا المشروع الوطني ضمن سقف أوسلو". لكن إذا ضاق الخناق فعلياً على الفلسطينيين نتيجة الاستيطان وتشديد القبضة الإسرائيلية، فإن هذه الوعود ستبدو أكثر فراغاً من أي وقت مضى. عندها، ستجد شرائح واسعة من الشارع الفلسطيني أن السلطة لم تعد قادرة على الدفاع عن مصالحهم أو حتى تخفيف وطأة الاحتلال، مما قد يدفع إلى اهتزاز صورتها وتراجع قاعدة تأييدها. هذا التراجع قد يفتح الباب أمام صعود فصائل أخرى تحمل فكر مواجهة الاحتلال والتصدي له.
هل نكون أمام انتفاضة ثالثة؟
العوامل التي قد تدفع نحو اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة تتقاطع عند نقطة أساسية، وهي انسداد الأفق السياسي وانهيار ما تبقى من "أوسلو". فمع تصاعد الاستيطان الإسرائيلي وتقويض فكرة الدولة الفلسطينية، يُسقط الاحتلال عملياً الإطار السياسي الذي تستند إليه السلطة، في وقت يتعمّق فيه الإذلال اليومي عبر التوسع الاستيطاني واقتحام المدن والتضييق على مدن الضفة الغربية، بما يخلق شعوراً عاماً مفاده أن الوضع القائم لا يمكن التصدي له إلا بخيار المقاومة هذا الواقع يترافق مع ضعف السلطة واهتزاز شرعيتها الشعبية، الأمر الذي يفتح الباب أمام حراك فلسطيني قد تعجز عن احتوائه. أما الشباب الفلسطيني، جيل ما بعد "أوسلو"، الذي لم يعايش سوى الاحتلال والفشل السياسي، فلا يرى أملاً في المفاوضات أو التسويات، ما يجعل خيار المقاومة والانتفاضة يبدو أكثر إقناعاً في ظل انسداد كل المسارات الأخرى. لذا من المتوقع أن نشهد تصاعداً في العمل المسلح في مدن مثل نابلس وجنين وطولكرم، حيث سيحاول الشبان الفلسطينيون الرد على الخنق والاعتداءات اليومية. ومن المرجح أن يتخذ هذا النشاط أشكالاً متعددة، تشمل العمليات الفردية كالدهس والطعن، التي باتت جزءاً من المشهد المقاوم في الضفة.
الكاتب: غرفة التحرير