الخميس 25 أيلول , 2025 03:42

تشييع الشهيد القائد.. بداية لا نهاية

تشييع الشهيد السيد حسن نصرالله

استُشهد سماحة السيد حسن نصر الله بعد مطاردة طويلة دامت ربع قرن، سخّر خلالها العدو الإسرائيلي وحليفه الأميركي جهودًا جبّارة وتقنيات متطورة وميزانيات ضخمة من أجل النيل منه. وقد كان استشهاده حدثًا استثنائيًا لم يسبق أن عرفه التاريخ، إذ تعرّض لقصف غير مسبوق بعشرات الأطنان من الصواريخ والقنابل التي ألقتها عشر طائرات حربية دفعة واحدة على مساحة شاسعة من الأحياء. أراد العدو أن يجعل من هذا الاغتيال إعلانًا لنهاية مرحلة بأكملها، وأن يُدخل المنطقة في عهد جديد من هيمنته، لكن دماء السيد كانت الشرارة التي فجّرت حربًا شاملة بدأت بعد ساعات قليلة، فتحوّل الحدث إلى بداية فصل جديد من الصراع، لا إلى نهايته.

تأخّر تشييعه خمسة أشهر تقريبًا، فزاد هذا التأخير من وطأة الفقد ومن رمزية اليوم، إذ تحوّل التشييع إلى محطة وجدانية وتاريخية تحفر في الذاكرة الجماعية لكل من عاصر السيد على امتداد القارات. لم يكن يوم الوداع مجرد مناسبة للحزن والبكاء، بل لحظة فاصلة ونقطة تحوّل تاريخية، أكّدت أن غياب القائد لا يعني انهيار مشروعه، بل تثبيت جذوره في الأرض. كان التشييع رسالة سياسية بليغة للأعداء قبل الأصدقاء، مضمونها أن الدماء تزيد المقاومة حياة، وأن النهج الذي سار عليه السيد سيستمر رغم كل التضحيات.

في هذا اليوم تجلّت الاستمرارية والإصرار على حمل الأمانة. فالسيد الذي كان القائد والحامي والمرشد لا يغيب حضوره بمجرّد غيابه الجسدي، بل يتجذّر أكثر في وجدان محبيه. تحوّلت مشاعر الحزن إلى طاقة مضاعفة للتمسك بتعاليمه والسير على خطاه، وبدت العلاقة بين القائد والجماهير علاقة استثنائية لم يستطع كثير من الزعماء بلوغها. كان الحضور الشعبي شهادة جديدة على سرّ شخصيته التي جمعت الكاريزما والصدق والإيمان، وأثبتت أن استمرارية المشروع ليست شعارًا بل التزامًا عمليًا.

برزت أيضًا قيمة التحدي، إذ خرج الناس ليعلنوا استعدادهم لتحمّل المسؤوليات الكبرى، وليؤكدوا أنهم على أتمّ الجهوزية للتضحية في سبيل النهج الذي ضحّى القائد بروحه من أجله. كان يوم التشييع امتدادًا لروح عاشوراء، حيث تتجلى القوة في لحظات الحزن، ويُعلن القسم بمواصلة الدرب. فالمشهد لم يكن حزنًا مجردًا، بل حزنًا مغلّفًا بالإصرار والعزيمة.

أما القوة المعنوية والنفسية فقد بدت في تماسك الجماهير وانضباطها، وفي قدرتها على تحويل الانفعالات إلى عناصر تعزز الوحدة. لم يكن البكاء ضعفًا، بل تنفيسًا مشروعًا ترافق مع رفع الرؤوس عزةً وكرامة. وقد اجتمع الحزن والإيمان ليعكسا صورة العلاقة العميقة بين القائد وأمته. وفي قلب المشهد تجلّى التسليم لله، باعتباره قيمة روحية تسهّل تقبّل الفقد، وتجعل من الاستشهاد بابًا للقاء الله، كما تمنح المؤمنين قوة على مواجهة الابتلاء بالصبر والرضا.

تحمّل المسؤولية كان العنوان الأبرز، إذ أدرك الجميع أن دماء السيد وضعت أمانة ثقيلة في أعناقهم. مسؤولية لا تقتصر على يوم التشييع، بل تمتد بامتداد الرسالة نفسها، وتتمثل في أن يكون كل فرد صورة عن قائده في الأخلاق والمواقف والثبات. ولعلّ التشييع مثّل أيضًا لحظة مواجهة للواقع بعد طول إنكار، فقد أجبر المشهد العيون والقلوب على التسليم بالحقيقة، ليبدأ عهد جديد من الالتزام والوعي.

لقد شكّل الحضور الجماهيري العارم لوحة فريدة: كبار وصغار، رجال ونساء، جرحى ومرضى، من لبنان وخارجه، من طوائف مختلفة، كلهم اجتمعوا في مشهد يختصر الولاء والتعاطف. لم يكن الأمر مجرد مشاركة وجدانية، بل رسالة إعلامية وسياسية مفادها أن القائد ملك لكل هؤلاء، وأن مشروعه يتجاوز الحدود الضيقة. وفي قلب هذه المشاعر تداخل الغضب مع الحزن، فتحوّل الثأر من انفعال فردي إلى قيمة جهادية جماعية، وجدت تعبيرها الأوضح في استمرار القتال على الجبهات وصمود الناس في مواجهة الحصار والعدوان.

في لحظة الوداع أيضًا، برز الاستلهام من سيرة السيد، إذ وجد الناس في استذكاره تعويضًا عن الفقد، واستعادوا مواقفه في التربية والوحدة ومناصرة المظلومين والدعوة إلى جعل فلسطين بوصلةً دائمة. لم يقتصر التأثر على بعده السياسي، بل شمل أيضًا صفاته الشخصية، من تسامحه وصبره وتواضعه، وهو ما جعل التماهي معه تحديًا ومطلبًا في آن واحد. فالتسامح الذي كان يراه السيد قوةً في مواجهة الخصوم بات قيمة يصعب على كثيرين التمسك بها، لكنه تماهٍ مطلوب كي يبقى الأتباع على صورته.

ومع كل ذلك، ظل الفخر والاعتزاز طاغيًا. فمنذ عقود والجماهير تفخر بقائدها، وبعد استشهاده تضاعف هذا الشعور، إذ صار الانتماء إلى مدرسته الجهادية شرفًا إضافيًا. لكن القيمة الكبرى التي ارتسمت في الوجدان كانت حب الشهادة في سبيل الله، وهو الحب الذي زرعه السيد في قلوب الناس حين كان يردد دائمًا أن أمنيته الوحيدة هي الشهادة. بهذا المعنى صار استشهاده تتويجًا لمسيرة كاملة، ورسالة أخيرة تقول إن الموت في سبيل الله حياة أبدية، وإن الأمة التي تتشرب هذا المعنى لا يمكن أن تُهزم.


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور