الخميس 06 شباط , 2025 04:48

ترامب وغزة: مقامرة جيوسياسية أم فوضى محسوبة؟

دونالد ترامب

عندما يتحدث دونالد ترامب، ينقسم العالم بين أولئك الذين يأخذون كلماته على محمل الجد، وأولئك الذين يعتقدون أنه يختبر ردود الفعل ليحدد خطوته التالية. لكن بين هذه الفئات، هناك حقيقة ثابتة: ترامب لا يتحدث من فراغ.

إعلان ترامب عن نيته “السيطرة على غزة” أو “إعادة بنائها مع شركاء إقليميين”، ترافق مع تصريحات غامضة حول ضرورة رحيل الفلسطينيين مؤقتًا، مع حديث مستشاريه عن أن بإمكانه جعل الأمور “أسوأ بكثير”، أثار عاصفة من ردود الفعل الدولية، من وزراء خارجية أوروبا إلى الأمم المتحدة وصولًا إلى القادة العرب.

لكن هل كان هذا مجرد تهور ترامبي معتاد؟ أم أن هناك خطة أكبر خلف الستار؟

سيناريوهات قراءة الخطاب: ترامب بين الانتهازية والفوضى المتعمدة

لفهم خطاب ترامب، علينا أن ننظر إليه من زاويتين:

         1.      نظرية الفوضى الاستراتيجية: هذه الفكرة تقوم على مبدأ أنه عندما لا تكون لديك خطة واضحة، فالأفضل أن تربك خصومك بحلول غير تقليدية وتضعهم في حالة من الحيرة. ترامب قد يكون أعاد تدوير تكتيكه القديم من مفاوضات التجارة مع الصين: افتح موضوعًا صادمًا، شاهد ردود الفعل، ثم أعد ضبط موقفك وفقًا لما يخدم أهدافك النهائية.

         2.      المقايضة الجيوسياسية: ترامب يدرك أن أي تسوية نهائية في الشرق الأوسط ستحتاج إلى “صفقة كبرى”. هذه الصفقة قد تشمل التطبيع الإقليمي، إنهاء حكم حماس، وضمان مصالح "إسرائيل"، وربما حتى تسوية أوسع تتعلق بإيران. لهذا، قد يكون طرح التهجير كمجرد ورقة تفاوضية ليبدو أي بديل لاحق وكأنه حل معقول مقارنة بالخيار الكارثي.

الولايات المتحدة والازدواجية الأخلاقية

لنفكر في هذا للحظة: ترامب، الذي قضى سنوات يشكو من التورط الأميركي في الشرق الأوسط، ويهاجم “الحروب التي لا نهاية لها”، يريد الآن أن تنشر الولايات المتحدة قواتها وتسيطر فعليًا على غزة. نحن لا نتحدث عن مبادرة إعادة إعمار أو عن اتفاق سلام، بل عن احتلال أميركي طويل الأمد للقطاع، في خطوة قد تكون أكبر تدخل أميركي في الشرق الأوسط منذ غزو العراق عام 2003.

لم يُكلّف ترامب نفسه حتى عناء شرح الأساس القانوني أو العسكري لهذا الاستيلاء. لم يُجب عن الأسئلة الأساسية:

         •        كيف ستفرض الولايات المتحدة سيطرتها على غزة؟ هل سيتم إرسال قوات أميركية؟

         •        ما مصير مليوني فلسطيني؟ هل سيتم “تشجيعهم” على الرحيل، أم ستكون هناك عمليات تهجير قسري؟

         •        ما هو موقف "إسرائيل" من هذه الخطة؟ هل ستتخلى عن غزة بالكامل أم ستكون شريكة في هذه العملية؟

لكن السؤال الأكبر هو: لماذا؟ ما هي المصلحة الأميركية في السيطرة على منطقة حرب مدمرة، بينما لا تزال الولايات المتحدة تحاول الخروج من حروبها السابقة؟

إذا كان العالم يعاقب روسيا بسبب غزوها لأوكرانيا، فكيف يمكن لواشنطن أن تبرر “احتلالها” لغزة؟ من منظور القانون الدولي، هذا سيكون تناقضًا كارثيًا، وسيفتح الباب أمام الصين وروسيا للقول: إذا كان ترامب يستطيع غزو غزة، فلماذا لا نستطيع نحن غزو تايوان أو شرق أوكرانيا؟

حتى داخل واشنطن، سيكون هناك انقسام حاد حول هذا الطرح:

         •        المؤسسة الأمنية والعسكرية الأميركية قد تعارض التدخل المباشر في غزة، خوفًا من التورط في مستنقع جديد يشبه العراق وأفغانستان.

         •        الحزب الديمقراطي والمعارضة الداخلية ستستخدم هذه التصريحات لمهاجمة ترامب واتهامه بالانحياز الأعمى "لإسرائيل".

         •        حتى بعض الجمهوريين المعتدلين قد يشعرون بالقلق من أن هذه الخطة ستؤدي إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط بالكامل.

البدائل الواقعية: هل هناك خطة بديلة؟

ترامب قد لا يكون جادًا في تنفيذ فكرة الاحتلال فعليًا، لكنه يريد تغيير قواعد اللعبة. لذا، فإن البدائل المحتملة قد تشمل:

         1.      إدارة دولية لغزة تحت إشراف أميركي-أوروبي-عربي، لكنها لن تكون احتلالًا أميركيًا مباشرًا.

         2.      تسوية مع حماس تتضمن نزع سلاحها مقابل إعادة الإعمار، وهو ما قد يكون أحد الأهداف الحقيقية وراء هذا الطرح.

         3.      إعادة فرض النفوذ المصري في غزة مقابل ضمانات أميركية، لكن هذا يواجه رفضًا فلسطينيًا وعربيًا واسعًا.

ردود الفعل الدولية: رفض واسع ولكن…

من فرنسا إلى الصين، ومن ألمانيا إلى العالم العربي، جاء الرد حازمًا: لا للتهجير القسري. الاتحاد الأوروبي أكد أن غزة جزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية، بينما أعلنت الأمم المتحدة أن الطرد القسري جريمة. حتى القادة العرب، مثل مصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات، رفضوا أي فكرة لإخراج الفلسطينيين من أراضيهم.

لكن في الوقت نفسه، البيت الأبيض ترك مساحة للمناورة، متحدثًا عن إعادة بناء غزة بدون تحديد طبيعة “الإدارة” التي ستتولى ذلك. هنا نعود إلى النقطة الجوهرية: هل يريد ترامب فعلاً السيطرة على غزة، أم أنه يضغط لفرض واقع جديد يقبل فيه العالم بترتيبات أمنية معينة دون تهجير واضح؟

الحسابات الإسرائيلية - هل نتنياهو مستعد للمجازفة؟

من المثير أن نلاحظ أن نتنياهو لم يرفض الفكرة صراحة. بل جاءت التعليقات "الإسرائيلية" مترددة أو حتى داعمة ضمنيًا، مثل قول وزير الخارجية "الإسرائيلي" إن “الهجرة تتم بإرادة من يرغب”.

كما أن هناك تصريحات متتالية من بن غفير وسموتريتش وغانتس تصف رؤيته بشأن غزة بأنها “إبداعية” و”استراتيجية اليوم التالي”. لكن خلف هذا الحماس، هناك سؤال جوهري يدور في أذهان الجميع، حتى داخل معسكر نتنياهو نفسه: هل هذا حقًا سيحدث، أم أن ترامب يلعب لعبته المعتادة، حيث يثير العاصفة ثم يترك الآخرين يتعاملون مع تداعياتها؟

نتنياهو في موقف حرج، فهو يحتاج إلى دعم ترامب لكنه لا يستطيع المجازفة بعزلة دولية. لذا، فإن تكتيكه قد يكون السماح لترامب بطرح الفكرة، ثم مراقبة ردود الفعل قبل اتخاذ موقف نهائي.

أخيرًا، لا يمكن تجاهل أن ترامب، هو بحاجة إلى دعم اللوبيات المؤيدة "لإسرائيل"، ولكنه أيضًا يريد إبقاء الجمهوريين في صفه عبر تصوير نفسه كصانع صفقات جريء. ربما لم يكن الهدف من تصريحاته حول غزة تحقيق تهجير فعلي، بل تقديم “حل جذري” يرضي مؤيديه، ثم التراجع عنه لصالح حل أكثر واقعية لاحقًا، ليبدو وكأنه مهندس “صفقة القرن” الجديدة.

ازدواجية ترامب: من نوبل للسلام إلى التطهير العرقي؟

ترامب لا يزال مقتنعًا بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام. لكن أي سلام يتحدث عنه؟ هل يحصل المرء على جائزة نوبل لأنه يدعم تهجير شعب بأكمله؟ هل تُمنح الجائزة لمن يعلن احتلال أراضٍ أجنبية بدلًا من السعي لحل النزاعات؟

ما يقدمه ترامب ليس سلامًا، بل فوضى. فكرة الاستيلاء على غزة ليست فقط غير قابلة للتطبيق، بل إنها تُدخل الولايات المتحدة في مستنقع جديد سيكون أكثر تعقيدًا حتى من العراق وأفغانستان.

حماس تردّ: بين الغضب والانفتاح على الحوار

ليس مفاجئًا أن يكون ردّ حماس على هذه التصريحات شديد اللهجة. الحركة رأت في تصريحات ترامب تهديدًا مباشرًا للشعب الفلسطيني، بل ووصل الأمر بقياداتها إلى وصف الفكرة بأنها “سخيفة وعبثية” و”انتهاك صارخ للقانون الدولي”.

لكن اللافت للنظر هو أن نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، موسى أبو مرزوق، في تصريح منفصل، أبدى استعداد الحركة للتواصل مع إدارة ترامب، مشيرًا إلى أن “الولايات المتحدة أصبحت ضرورة بالنسبة إلى الحركة”. هنا، يجب التوقف للحظة.

لماذا تعلن حماس رفضها المطلق لمقترحات ترامب في العلن، لكنها في الوقت نفسه تشير إلى استعدادها للحوار معه؟

الجواب بسيط: لأن السياسة ليست مجرد شعارات، بل حسابات. حماس، التي تجد نفسها في وضع معقد سياسيًا وعسكريًا، تدرك أن الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط، وأن أي حل مستقبلي للصراع الفلسطيني-"الإسرائيلي" سيمر عبر واشنطن بطريقة أو بأخرى.

هذا لا يعني أن حماس ترى فرصة حقيقية للتعاون مع ترامب، لكنه يعكس إدراكها بأن الخطاب المتشدد وحده ليس كافيًا. هناك توازن دقيق بين الرفض القاطع والبراغماتية السياسية، وهو ما تحاول حماس تحقيقه هنا.

هل هناك خطة حقيقية؟

قد يكون خطاب ترامب مزيجًا من التكتيك الفوضوي والمقايضة الجيوسياسية، لكن في نهاية اليوم، غزة ليست ورقة يمكن تحريكها بسهولة. الفلسطينيون ليسوا مجرد "ملف قابل للنقل"، والمجتمع الدولي أوضح أن هناك حدودًا لا يمكن تجاوزها.

لكن إن كان التاريخ يعلمنا شيئًا عن ترامب، فهو أنه لا يطرح فكرة لمجرد الحديث. قد لا يكون هناك مخطط نهائي بعد، لكن الأكيد أن ما بدأ كتغريدة أو تصريح قد يتحول إلى مفاوضات حقيقية تغير مسار الأحداث، كما حدث سابقًا في سياساته مع كوريا الشمالية والصين.

السؤال الحقيقي الآن: هل العالم مستعد للعب بشروط ترامب؟


الكاتب:

د.محمد الأيوبي

كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]




روزنامة المحور