يشرح هذا المقال الذي نشره موقع "المستقبل الجيوسياسي - geopolitical futures" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، أن منطقة الشرق الأوسط ستبقى عبئاً يعيق الجهود الأميركية لتركيز اهتمامها على التحدي الصيني. مبيناً بأن أمريكا برئاسة دونالد ترامب، لا تزال تنفق مليارات الدولارات لمواجهة ما وصفه بـ"التهديدات الإقليمية".
واستعرض المقال، ما تعاني منه القوات الأمريكية من خسائر في مواجهة القوات المسلحة اليمنية، في مناطق البحر الأحمر وبحر العرب ومنطقة المحيط الهندي، مشيراً إلى أنه لا تستطيع أي دولة في المنطقة، التعويض عن الوجود العسكري الأمريكي المباشر.
النص المترجم:
تمرّ الولايات المتحدة الأمريكية بتحوّل تاريخي في استراتيجيتها الجيوسياسية، يهدف إلى تقليص انخراطها في الصراعات العالمية. غير أن الشرق الأوسط يبدو استثناءً من هذا التوجه؛ فالقوات العسكرية الأميركية لا تزال تشارك في القتال، بل وعززت انتشارها في المنطقة. فالشرق الأوسط أكثر هشاشة من غيره من الساحات، ولذلك سيتعيّن على واشنطن أن تبذل جهداً أكبر لتنجح في الاعتماد على الأطراف الإقليمية لتولي زمام المبادرة في المسائل الأمنية.
في 28 نيسان/أبريل، فقدت طائرة حربية أميركية من طراز F/A-18E Super Hornet في البحر من على متن حاملة الطائرات "يو إس إس هاري إس. ترومان" أثناء عملياتها في البحر الأحمر. ورغم أن الحادثة كانت نتيجة خطأ بشري، إلا أنها لم تكن لتحدث لولا أن الحاملة اضطرت إلى إجراء مناورة حادة لتفادي صواريخ وطائرات مسيّرة هجومية أطلقتها قوات الحوثيين. وهذه ثاني طائرة من هذا النوع تُفقد في المنطقة خلال الأشهر الأربعة الماضية – حيث أُسقطت الطائرة الأولى عن طريق الخطأ من قبل الطراد الصاروخي "يو إس إس غيتيسبيرغ" في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وتأتي هذه الحادثة الأخيرة في وقت ارتفعت فيه بشكل كبير وتيرة العمليات العسكرية الأميركية في المنطقة. ففي الأسابيع الستة الماضية فقط، نفذت واشنطن أكثر من 800 غارة جوية على اليمن. وترى الولايات المتحدة أن هذا التصعيد ضروري، نظراً لأن الحوثيين عطّلوا حركة الملاحة التجارية في البحر الأحمر واستهدفوا سفن البحرية الأميركية منذ أواخر عام 2023. لكن المشكلة تكمن في أن واشنطن أنفقت ما يصل إلى مليار دولار خلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط لمحاولة إضعاف الحوثيين، في حين أن الحوثيين قادرون على تهديد حرية الملاحة بإنفاق لا يتجاوز عشرات الآلاف من الدولارات. وهذا ما يخلق خللاً غير قابل للاستمرار في ميزان التكاليف.
استراتيجياً، هناك مشكلة أكبر بكثير: تحاول الولايات المتحدة التراجع عن دورها كضامن للأمن العالمي – وهو أمر يصعب تحقيقه بينما تنفق أموالاً طائلة على العمليات البحرية في اليمن. فالنشر المتزامن لمجموعتي حاملة طائرات – "يو إس إس ترومان" في البحر الأحمر و"يو إس إس كارل فينسون" في بحر العرب – بالإضافة إلى تمركز 6 قاذفات استراتيجية من طراز B-2 في جزيرة دييغو غارسيا، يعكس تناقضاً واضحاً مع هذا التوجه الاستراتيجي العام.
أما في أوروبا، فلا تواجه الولايات المتحدة مشاكل مماثلة. فهي لا تزال تضغط على الأوروبيين لتولّي مسؤولية الدفاع عن أنفسهم في مواجهة روسيا، والتي قد تظل تسيطر على ما يصل إلى 20% من أوكرانيا لفترة غير محددة. وفي غرب المحيط الهادئ، شجعت واشنطن حلفاءها على تحمل نصيب أكبر من المسؤولية في مواجهة الصين. ومع ذلك، هناك فرق في موقف واشنطن من الأمن في أوراسيا مقارنةً بنهجها تجاه البحار المفتوحة.
وباعتبارها قوة قارية تطلّ على محيطي الأطلسي والهادئ، فإن للولايات المتحدة مصلحة في الحفاظ على هيمنتها البحرية العالمية. فالممرات البحرية هي السبيل الوحيد الذي يمكن أن يأتي منه تهديد مباشر للأراضي الأميركية. وهذا هو المنطق الذي استندت إليه إدارة ترامب في سعيها للسيطرة على قناة بنما وغرينلاند (وفي حالة غرينلاند، هناك بُعد إضافي يتمثل في التغيرات المناخية التي قد تحول التندرا القطبية إلى امتداد بحري لكل من المحيطين).
لذلك، فإن ضمان عدم قدرة الأطراف المعادية على العمل بفعالية في هذه المياه – خاصة في ظل تحركات الصين لتوسيع وجودها البحري – يُعدّ أمراً حيوياً للولايات المتحدة. ومن اللافت أن حوض المحيط الهندي لا يُثير القلق بنفس الدرجة لدى البنتاغون. فهذا الحوض المحصور بين إفريقيا وآسيا وأستراليا يُعدّ فضاءً بحرياً شبه مغلق يتطلب موارد أقل من واشنطن.
باعتبارهما امتدادين للمحيط الهندي، يعدّ كلاً من البحرين العربي والأحمر ممرين حيويين للتجارة العالمية، ولهذا السبب تُكرّس الولايات المتحدة حالياً الكثير من مواردها لمواجهة التهديد الحوثي. فالولايات المتحدة لا تمتلك أسطولاً مخصصاً للمحيط الهندي، ويُعدّ الأسطول الخامس، المتمركز في البحرين، الأقرب، وهو مسؤول عن الخليج الفارسي وخليج عمان ومنطقة محدودة في شمال غرب المحيط الهندي. أما الأسطول الأقرب التالي فهو الأسطول السابع، المتمركز في اليابان، والذي يُعدّ الأكبر في العالم، وتغطي منطقة عملياته الشاسعة المساحة الممتدة من خط التاريخ الدولي إلى حدود الهند وباكستان، ومن جزر الكوريل إلى القارة القطبية الجنوبية.
وإذا ما قررت الولايات المتحدة تفويض مسؤولية الأمن في المحيط الهندي، فسيكون عليها الاعتماد على أطراف إقليمية. لكن في الواقع، لا يوجد طرف إقليمي يمتلك القدرة على ذلك. قد تتمكن الهند من لعب هذا الدور مستقبلاً، لكن كما تُظهر آخر المواجهات مع باكستان والمواجهة المستمرة مع الصين، فإن نيودلهي ستعاني من صعوبة في إسقاط نفوذها على حوض المحيط الهندي، ناهيك عن المياه المحيطة بشبه الجزيرة العربية، في المستقبل القريب.
أما في الشرق الأوسط، فلا يوجد طرف مماثل يمكنه تولّي هذه المسؤولية. فتركيا ستظل منشغلة في مستنقع الحرب في سوريا في المستقبل المنظور، ولا تملك القدرة على بسط نفوذها إلى هذا الحد جنوباً. وإسرائيل قادرة على تنفيذ ضربات جوية بعيدة المدى في اليمن، لكن ذلك لا يُعدّ بديلاً عن توفير الأمن الإقليمي. والسعودية لم تتمكن من هزيمة الحوثيين رغم تدخل عسكري استمر ست سنوات في اليمن، واضطرت إلى التنازل عن ميناء الحُديدة الاستراتيجي للجماعة في عام 2021، وهو ما شكّل عاملاً أساسياً في قدرة الحوثيين على تعطيل الملاحة في البحر الأحمر بعد ذلك بعامين. أما إيران، فهي نفسها مصدر التهديد البحري الذي يمثله الحوثيون.
وحتى لو كانت بعض هذه الدول تملك النية والقدرة على تولّي زمام المبادرة في الشؤون الأمنية الإقليمية، فإن تضارب أولوياتها يمنعها من القيام بذلك. هناك صفقات منفصلة يجري الإعداد لها بين أربعة من اللاعبين الإقليميين، وقد تُساعد إدارة ترامب على تقليص وجودها العسكري. ومع ذلك، من غير المرجّح أن تتمكن الولايات المتحدة من فك ارتباطها بالمنطقة. وهذا يعني أن الشرق الأوسط سيبقى عبئاً يعيق الجهود الأميركية لتركيز اهتمامها على التحدي الصيني.
المصدر: المستقبل الجيوسياسي GPF
الكاتب: غرفة التحرير