ما نشهده من مواجهة مباشرة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكيان الاحتلال الإسرائيلي يُعدّ تطوراً مفصلياً، وحدثاً تاريخياً واستثنائياً غير مسبوق. لكن الذي سيحسم النتيجة في هذه الحرب، هو كيفية إدارة التصعيد وتحقيق الأهداف. فمن يضبط إيقاع المعركة، يملك نهايتها وخواتيمها. في هذا التصعيد، لن تُقاس المعركة فقط بما جرى، بل بالخطوات التي سار بها كل طرف: من التوقيت؟ والميدان؟ الى الردّ بقوة وذكاء؟
من جهة الكيان
أولاً، عند انطلاق العدوان الاسرائيلي ضد إيران، أعلن الكيان أن الهجوم سيستمر لأسبوعين. لكن بعد الرد الإيراني وحجمه وظهور تداعياته، عاد ليصرّح بأن العملية قد تستغرق أسبوعاً فقط، في تراجع واضح عن نبرة الاندفاع الأولى. ويكشف التخبط والتراجع المتدرج لقادة إسرائيل.
ثانياً، يحاول العدو تقديم صورة انتقائية في تغطيته الإعلامية. فنجده يستعرض الشوارع التي تتواجد فيها سيارات الإسعاف الإسرائيلية، ساعياً للقول: هنا مدنيون. ذلك لأنه على يقين أن إيران لن تضرب مدنيين عن قصد.
الكاتب الإسرائيلي آلون مزراحي قال في هذا السياق: "تستطيع إيران قصف إسرائيل من على بُعد آلاف الكيلومترات دون أن تقتل طفلاً واحداً. أما إسرائيل فلا تستطيع مهاجمة هدف فلسطيني من مسافة صفر دون أن تقتل عشرات الأطفال يومياً"، وهذا يبرز عقيدة الكيان عند أي تصعيد. ومع ذلك، حيث يستخدم العدو ورقة المدنيين كدروع بشرية بطريقة خبيثة للضغط على إيران. كما حصل سابقاً في حادثة مجدل شمس أثناء حرب الإسناد مع لبنان، حين ادعى أن حزب الله قصف ملعباً للأطفال، ليتبين لاحقاً أن إصابتهم كانت نتيجة صاروخ اعتراض إسرائيلي.
ثالثا، ضمن أدوات الضغط، تُلاحظ حركة إعلامية متسارعة: فقد أعلنت الوكالة الأميركية للإعلام العالمي عن استدعاء موظفي القسم الفارسي في "صوت أمريكا" من إجازاتهم، في خطوة لتكثيف الحرب الإعلامية وبث برامج دعائية هدفها زعزعة الداخل الإيراني وتحريض الشعب على النظام. وكذلك فعل نتنياهو حيث توجه في خطابه أمس إلى الشعب الإيراني وحرضهم بشكل واضح على نظامهم.
إيران تدير التصعيد بطريقة ذكية
أولاً، لم ترد طهران على العدوان الإسرائيلي على الفور، بل انتظرت لتفهم السياق العام: هل ما حصل هو ضربة محدودة أم اعتداء واسع؟ هل هي معركة ام حرب؟ ما هي نوايا العدو؟ ما هي ردود الأفعال الإقليمية والدولية؟ البدء بارسال الرسائل لدول العالم والأمم المتحدة وإظهار ان إسرائيل اعتدت على السيادة الإيرانية وقد خالفت القوانين الدولية والأهم ان إيران أحصت الأهداف والخسائر لتجهيز رد متناسب ومتماثل للعدوان كماً ونوعاً، بالطبع، ذلك بعد تعيين قادة عسكريين جدد بدل القادة الشهداء وملأ الفراغ، هذا التريّث لم يكن تردّداً، بل حساباً محسوباً ودقيقاً.
ثانياً، جاء الرد الإيراني على تهديدات العدو بضرب الطاقة والبنى التحتية متماثلاً على قاعدة "إذا ضُربت الطاقة والبنى التحتية لدينا، فسنضرب البنى التحتية لديك". وهذا دليل على إدارة التصعيد وتصريح واضح أن الردود المحدودة لم تعد متوفرة، وسيتلقى العدو الضربات بنفس المقدار، بل أقسى وأشد.
ثالثاً، في التنفيذ، أظهرت طهران دقة في إصابة أهدافها وصواريخها، ونجحت في تدمير مبانٍ في تل أبيب. إيران لا تسعى للاستعراض ولا تقاتل من أجل الصورة، بل تريد تنفيذ عقاب شديد يشعر فيه الإسرائيلي بالمرارة والألم كما أكد قائد الثورة الإسلامية السيد علي الخامنئي، وأن تمارس ضغوطاً مدروسة، وتترك المجال لمراحل لاحقة إذا أصرّ العدو على التصعيد. فالمرحلة الثانية ستكون مختلفة، وتهدف إلى إصابات أوسع نطاقاً وأشد إيلاماً. وقد صرّح المتحدث باسم الجيش الإيراني أن الإطلاق الصاروخي القادم سيكون بنحو 2000 صاروخ، وعشرين ضعف الرد الأول، في رسالة واضحة أن ما رأيناه لم يكن سوى البداية، وأن قدرة إيران على التصعيد سيكون لها كلفة ثقيلة على العدو. وهذا يندرج ضمن قاعدة التريث في طرح الأوراق وعدم طرحها دفعةً واحدة.
رابعاً، خلقت إيران حالة إرباك حقيقية وتشكيك عند المستوطنين. حيث بدأت تساؤلاتهم تظهر: "إذا كانت الدفاعات لم تستطع التصدي لـ 200 صاروخ فقط، فماذا لو أمطرنا العدو بآلاف الصواريخ"؟ هذا التشكيك ليس تفصيلاً، بل جزء من الضغط المستمر.
خامساً، رفض إيران كل دعوات التفاوض، معتبرة أن المفاوضات النووية غير المباشرة مع أمريكا لم تعد مجدية بعد عدوان الكيان. الموقف الإيراني هذا يعبّر عن إدراك عميق لطبيعة العدو، ويشير إلى أن طهران لا تبحث عن تهدئة وهمية أو هدنة تنقذ العدو من مأزقه. فإذا كان ترامب فعلياً يريد التفاوض فلماذا سمح للكيان بتنفيذ عدوانه على إيران وأعطاه الشرعية؟ وهو صرح بنفسه أنه كان على علم بالعدوان مسبقاً، ربما ظن أنه سيشكل ضغطاً من خلاله على إيران ويلزمها بالقبول بشروطه، ولكن حدث عكس ما توقع فإيران بالطبع لن تذهب الى المفاوضات في ظل العدوان عليها.
سادساً، دقة التخطيط الإيراني، قال المتحدث باسم هيئة الطاقة الذرية الإيرانية: "نقلنا المعدات المهمة خارج محطة فوردو النووية قبل الهجوم". هذا التصرف لا يُظهر فقط جاهزية دفاعية، بل يؤكد أن طهران كانت تتوقّع التصعيد ولم تتفاجأ، واتخذت خطوات استباقية دقيقة لحماية منشآتها الحيوية. ما يدل على تقدير صائب للأهداف التي سيضربها العدو وبالتالي العمل على تغيير أماكنها وخدع العدو. كما حصل في عملية "الوزن النوعي" الذي ادعى الكيان خلالها تدمير منظومة الصواريخ الخاصة بحزب الله خلال حرب تموز 2006 وصُدم بعدها بخديعة المقاومة له حيث تبين أن القائد الشهيد عماد مغنية قد أشرف على خطة لنقل كل الصواريخ ووضع مجسمات بدلاً عنها في نقاط محروقة.
سابعاً، على الصعيد الشعبي، فقد أظهرت إيران وشعبها تماسُكاً لافتاً. عبر الوقفات الداعمة للجمهورية الإسلامية وللموقف الرسمي وللرد على العدوان حيث انطلقت في مختلف المدن الإيرانية، وشارك فيها مئات الآلاف، في رسالة واضحة أن الداخل الإيراني متماسك رغم القصف، وأن العدو لن يستطيع شقّ هذا الاصطفاف خلف القيادة.
بناءً على ما أُعلن عنه حتى الآن، فإن إدارة التصعيد الناجح في هذه المرحلة يظهر من ستكون له اليد العليا في المنطقة، والجمهورية الاسلامية من الواضح أنها تتقن إدارة المعركة وهذا أحد شروط إدارة التصعيد المتفوق، وعامل مؤثر ومهم في حسم المعركة ونتائجها.
الكاتب: غرفة التحرير