الإثنين 11 آب , 2025 11:24

الشرق الأوسط الجديد:إعادة انتاج نسخة من الشرق الاوسط القديم؟

يقول الباحث في العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، ستيفن وولت، عبارة تلخص نظرة نقدية لطبيعة التحولات الجارية في المنطقة: "كلما تغير الوضع، كلما بقي كما هو". تلخص هذه العبارة التغيرات التي اجتاحت المنطقة منذ ما بعد عام 2001، بشأن "شرق أوسط جديد"، وهي الفكرة التي تروج لها الولايات المتحدة منذ عقود لكنها تصطدم دائما بالواقع الذي لا تستطع واشنطن فعلياً ايجاد حل جذري له لتنفيذ أجندتها، وسط عجز القوى الدولية والإقليمية عن فرض تسوية شاملة، وخاصة في جوهر القضايا، أي القضية الفلسطينية.

على مدى نصف قرن، كان كل حدث كبير في المنطقة يُقدَّم كـ"لحظة فاصلة": حرب 1967، اتفاقية كامب ديفيد، أوسلو، غزو العراق، الربيع العربي، وصولاً إلى 7 أكتوبر 2023. لكن رغم تغيّر خرائط النفوذ والتحالفات، لم تتبدّل البنية العميقة لعدم الاستقرار. فالمعادلة الجوهرية التي تحكم الإقليم أي صراع على النفوذ بلا قوة مهيمنة، ما زالت تحكم المشهد.

التحولات التي يشير إليها وولت، مثل إضعاف قوى "محور المقاومة" بفعل الضربات الإسرائيلية، أو انتقال مركز الثقل العربي نحو دول الخليج، أو تراجع الدور الروسي بسبب أوكرانيا، أو حتى تصدّع صورة إسرائيل في الغرب، كلها مؤشرات مهمة. لكنها تبقى سطحية إذا لم تُقَس بمدى اقتراب المنطقة من معالجة أزماتها البنيوية. الواقع أن تلك الأزمات لا تزال قائمة، بل ربما ازدادت تعقيداً، خصوصاً في ظل غياب مشروع سياسي إقليمي قادر على دمج مفهوم الأمن مع مفاهيم الشرعية والحقوق.

القضية الفلسطينية تظل البوصلة التي تكشف مدى جدية أي حديث عن شرق أوسط جديد. منذ عام 2023، تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين عشرات الآلاف، فيما تستمر سياسات الاحتلال والحصار، وتغيب أي عملية سياسية جدية. ومع تراجع فرص حل الدولتين، باتت المنطقة أمام خيارين أحلاهما مر: إما استمرار وضع الاحتلال الدائم، بما يحمله من تفجّر دوري للعنف، أو البحث عن صيغ سياسية جديدة لم تتبلور بعد، وقد تكون أكثر تعقيداً من فكرة الدولتين، بحسب وولت.

في الحقيقة، التنافس الإقليمي لم ينحسر بل أخذ أشكالاً جديدة. السعودية والإمارات وقطر ومصر وتركيا وإيران تتحرك في فضاء متعدد الأقطاب، تستميل فيه كل دولة القوى الكبرى لتعزيز موقعها. غير أن هذا الحراك لا يقود بالضرورة إلى استقرار، بل قد يفاقم هشاشة التوازنات، خاصة أن مؤسسات العمل العربي المشترك، مثل جامعة الدول العربية أو مجلس التعاون الخليجي، عاجزة عن لعب دور فاعل.

أما الولايات المتحدة، التي حاولت مراراً تقليص انخراطها المباشر في الشرق الأوسط، فما زالت عسكرياً وسياسياً طرفاً أساسياً في معادلاته. إدارة الرئيس دونالد ترامب شاركت في العدوان ضد إيران، ودعمت العمليات الإسرائيلية في غزة، فيما بقي خطاب "التحوّل نحو آسيا" أقرب إلى نية مؤجلة لا إلى استراتيجية متبعة حالياً. هذه الاستمرارية في التواجد الأميركي، رغم كل حديث عن الانسحاب، تكشف أن واشنطن تدرك أن أي فراغ ستتركه سيملؤه خصومها أو منافسوها، ما يجعل الانفصال عن المنطقة أمراً غير واقعي، على الاقل في الوقت الحالي.

لكن الأخطر في المشهد أن الظروف الحالية تمثل بيئة خصبة لعودة التطرف المسلح. غياب العدالة في فلسطين، وتفاقم القمع السياسي في كثير من الدول العربية، يعيدان إنتاج خطاب العنف، ويقدمان وقوداً لأجندات متطرفة تجد دائماً من يستغلها. هنا تكمن خشية بعض العواصم الخليجية: فحتى لو لم تكن لديها أولويات سياسية متقدمة لحل القضية الفلسطينية، فإنها تدرك أن استمرارها بلا حل يعني تهديداً لأمنها الداخلي.

بالمقابل، فإن تراجع صورة إسرائيل عالمياً، خاصة في الغرب، يمثل تحولاً سياسياً لا يمكن تجاهله. استطلاعات الرأي الأخيرة في الولايات المتحدة وأوروبا تشير إلى تنامي الأصوات الناقدة للسياسات الإسرائيلية، بل وحتى الاتهامات بارتكاب جرائم حرب أو الإبادة. هذا الانحسار في التعاطف الدولي قد يشكل ضغطاً على تل أبيب، لكن وحده لن يغير سياستها ما لم يقترن بضغط سياسي واقتصادي منظم.

في المحصلة، "الشرق الأوسط الجديد" كما يُسوَّق في الخطاب السياسي والإعلامي ليس إلا إعادة إنتاج لشروط "الشرق الأوسط القديم"، مع تغييرات في الأدوار لا في القواعد. فالقوة ما زالت تتقدم على الشرعية، والقمع يسبق الإصلاح، والفاعلون الإقليميون يسعون إلى تحصين مواقعهم أكثر من انخراطهم في مشاريع جماعية للاستقرار.

إن أي انتقال حقيقي نحو شرق أوسط مختلف لن يكون ممكناً دون معالجة جذرية لجوهر الصراع في فلسطين، وربط الأمن الإقليمي بالعدالة السياسية. وحتى يتحقق ذلك، ستظل مقولة وولت صالحة لوصف المشهد: "كلما تغير الوضع، كلما بقي كما هو".


الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور