الثلاثاء 19 آب , 2025 01:27

ديفيد هيرست: نتنياهو في مهمة للسيطرة على الشرق الأوسط.. فهل سيوقفه أحد؟

أم فلسطينية تحضن ابنها

يعتبر الصحفي والكاتب البريطاني ديفيد هيرست، في هذا المقال الذي نشره موقع "ميدل إيست آي – Middle East Eye"، بأن رؤية رئيس وزراء الكيان المؤقت بنيامين نتنياهو – وحتى غيره ممن يمكن أن يتولوا منصبه - لأرض الميعاد تعني أنّ إبادة غزة ليست سوى بداية لحملة احتلال إقليمية شرسة على الأراضي المحيطة بفلسطين المحتلة وصولاً الى العراق والسعودية، وأن الواجب الآن هو وقف هذه الإبادة.

النص المترجم:

عندما قدّمت جنوب أفريقيا دعوى الإبادة الجماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية (ICJ)، منحت المحكمة إسرائيل 9 أشهر لتقديم ردّها. وقد انتهت المهلة في نهاية تموز / يوليو.

قبلت هيئة القضاة الـ17، حجة إسرائيل بأنها بحاجة إلى مزيد من الوقت لإعداد قضيتها بسبب ما وصفته بـ"مشكلات أدلّة" في ملف جنوب أفريقيا. وبذلك مُدّدت حصانة إسرائيل أمام المحكمة 6 أشهر إضافية. ويُعتقد الآن أنّ المحكمة لن تُصدر حكمها قبل عام 2027 على الأقل.

خلال تلك الأشهر التسعة، مات أكثر من 250 فلسطينيًا جوعًا، نصفهم تقريبًا من الأطفال، بفعل سياسة متعمدة اتخذها مجلس وزراء إسرائيل كسلاح حرب. واستمرت المجازر بلا توقف. آلاف المدنيين قُتلوا بالقصف، وعشرات الآلاف مهددون بالموت إذا استعادت القوات الإسرائيلية السيطرة على مدينة غزة.

كشف تسريب لمحضر اجتماع وزاري عُقد في 1 آذار / مارس، نشرته مؤخرًا القناة 13 الإسرائيلية، كيف جادل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الشؤون الاستراتيجية آنذاك رون ديرمر – الذي يرأس الآن فريق التفاوض الإسرائيلي – بنجاح، ضد نصائح كبار القادة العسكريين والأمنيين، بأن على إسرائيل أن تُخضع غزة عبر التجويع.

وقرر نتنياهو كسر وقف إطلاق النار الذي كان قائمًا آنذاك، وقطع جميع المساعدات عن غزة لـ"إجبار حماس على الاستسلام"، بحسب التسريب.

غير أنّ نتنياهو زعم الأسبوع الماضي أن شيئًا من هذا لم يحدث. السياسة التي صوّت عليها في ذلك الاجتماع الوزاري في آذار / مارس لم تكن سوى "خيال"، واعتبرها جزءًا من حملة تشويه جماعية ضد اليهود. وبعد أيام، انضم الجيش الإسرائيلي إلى حملة الإنكار، مدعيًا أنه لا توجد مؤشرات على سوء تغذية واسع النطاق في غزة.

بمعنى آخر، فإن اليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي وجميع الخبراء الذين يؤكدون أن مجاعة تضرب غزة، "يكذبون". صور الأطفال الذين تحوّلوا إلى جلد على عظم "مفبركة". كل ذلك – بحسبه – مجرد "افتراء دموي" ضد اليهود.

تحريف مسار العدالة

إذا كانت محكمة العدل الدولية مشلولة، فإن الأمر نفسه ينطبق على شقيقتها المحكمة الجنائية الدولية ((ICC. كما ذكرت "ميدل إيست آي" بالتفصيل، فإن مذكرات التوقيف ضد نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت تم تحييدها فعليًا.

تم ذلك عبر حملة منظّمة ومخطط لها من التشويه، أجبرت المدعي العام البريطاني كريم خان على أخذ إجازة، بانتظار نتائج تحقيق خارجي في اتهامات بالاعتداء الجنسي – وهي اتهامات ينفيها خان بشدة.

ويوم الجمعة، أفادت "ميدل إيست آي" بأن مذكرات توقيف أخرى ضد وزيرين في الحكومة الإسرائيلية – وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش – مركونة على مكاتب نائبين للمدعي العام، ومغطاة بالغبار.

وبحسب مصادرنا، فإنها جاهزة بالكامل، ولو تم تفعيلها لكانت المرة الأولى التي يُحاكم فيها بجريمة الفصل العنصري في المحكمة الجنائية الدولية.

وقال مصدر في المحكمة: "إذا اختفت ملفات بن غفير وسموتريتش، فإن فرصة محاكمة أحد أكثر الأمثلة الفاضحة على الفصل العنصري في العالم اليوم ستضيع إلى الأبد".

أما أنا، فلست متفائلًا. الولايات المتحدة فرضت عقوبات على خان في شباط / فبراير، وفي حزيران / يونيو فرضت عقوبات على 4 قضاة في المحكمة، اثنان منهم صادقا على طلب خان لإصدار مذكرات التوقيف.

هذه الحملة الهادفة إلى تحريف مسار العدالة الدولية يبدو أنها تحقق أهدافها.

فبغض النظر عمّا سيحدث مع كريم خان، فقد نجحت إسرائيل والولايات المتحدة بالفعل في غايتها الأساسية: شلّ عمل المحكمة. هي ما تزال قائمة بالاسم، لكنها عمليًا توقفت عن الوجود فيما يخص الجرائم اليومية لإسرائيل من تطهير عرقي وتجويع وفصل عنصري.

أخبار مذكرات التوقيف وقضية جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية أشعلت موجة تفاؤل في أوساط حقوق الإنسان، لكنها سرعان ما اتضح أنها متسرّعة. يومها كان الرأي أن على العالم أن يؤجل الحكم على ما إذا كانت إبادة جماعية تجري في غزة، ليفسح المجال لعجلة العدالة الدولية كي تدور أخيرًا.

ومع تعطيل المحكمتين معًا، لم يعد هذا المنطق قائمًا. فقد انضمت عدة دول إلى دعوى جنوب أفريقيا، لكن ذلك تحوّل بدوره إلى مجرد استعراض سياسي.

حتى جنوب أفريقيا نفسها ما تزال تبيع الفحم لإسرائيل. وتركيا، رغم خطابها الناري بشأن غزة، ما تزال تسمح بتدفق النفط الأذربيجاني عبر ميناء جيهان في طريقه لتزويد سلاح الجو الإسرائيلي بالوقود.

وتدّعي أن لا سيادة لها على خط الأنابيب، وأن تحويل النفط الأذري إلى ناقلات متجهة إلى إسرائيل يتم في السوق الفورية بالمياه الدولية. لكن هل كانت أنقرة ستسمح بتدفق النفط عبر موانئها لو كان متجهًا إلى سلاح الجو اليوناني في وقت كان يقصف شمال قبرص؟ لا أظن ذلك.

"حالة إبادة جماعية نموذجية"

لا يمكن للشرق الأوسط أن يقف متفرجًا على هذه الإبادة.

الإبادة الجماعية مصطلح قانوني محدد في القانون الدولي. وعلى مدى عدة أشهر، تواصلت "ميدل إيست آي" مع عشرات الخبراء في القانون الدولي ودراسات الإبادة. بعضهم متخصص في الهولوكوست.

توجد اختلافات في الرأي حول متى بدأت هذه الإبادة، لكنهم جميعًا متفقون على الاستنتاج: ما يحدث في غزة يفي بمعايير الإبادة الجماعية. وهذا يشمل قتل أفراد من جماعة، إلحاق أذى جسدي خطير، وفرض تدابير تهدف إلى تدمير الجماعة أو المجتمع.

البروفسور راز سيغال، أستاذ مساعد في دراسات الهولوكوست والإبادة بجامعة ستوكتون في نيوجيرسي، كان من أوائل من استخدموا المصطلح لوصف الهجوم على غزة. ففي 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023 كتب في مجلة Jewish Currents أن هجوم إسرائيل يمثل "حالة إبادة جماعية نموذجية".

قال سيغال لـ "ميدل إيست آي": بصفتي باحثًا إسرائيليًا-أميركيًا في التاريخ اليهودي والهولوكوست، أتعامل بجدية مع الالتزام الأخلاقي بـ'لن يتكرر ذلك أبدًا'. في دراسات الهولوكوست والإبادة نعلّم طلابنا التعرف على المؤشرات المبكرة للإبادة: عمليات تتصاعد، إشارات حمراء تتطلب التدخل".

وأضاف: "انتقدني البعض لأنني استخدمت مصطلح الإبادة في وقت مبكر جدًا. جوابي: لأننا كنا نرى بالفعل مؤشرات رئيسية. أخلاقيًا وقانونيًا، ينشأ واجب منع الإبادة في ظل وجود خطر كبير، لا فقط عند اكتمال عملية التدمير".

وأشار سيغال إلى أنّ أمر إسرائيل في 13 تشرين الأول / أكتوبر 2023 لأكثر من مليون فلسطيني بالانتقال إلى جنوب غزة خلال 24 ساعة كان مؤشرًا واضحًا على خطر الإبادة. وقال: "جادلت آنذاك وما زلت أجادل أن هذا شكّل انتقالًا إلى مجال الإبادة الجماعية، أو على الأقل خطرًا كبيرًا بوقوعها، وهو ما يكفي وفق اتفاقية الإبادة لتفعيل واجب المنع".

لا جدال فيه

إثبات النية عنصر أساسي في قضايا الإبادة.

البروفيسور باري تراختنبرغ، أستاذ التاريخ اليهودي ودراسات الهولوكوست في جامعة ويك فورست بولاية كارولاينا الشمالية، قال: "منذ البداية رأينا تصريحات إبادة صريحة صادرة عن قادة إسرائيليين، أعقبتها مباشرة أفعال انسجمت مع تلك التصريحات".

وأضاف: "في معظم حالات العنف الإبادي، لا نحصل على تصريحات واضحة من القادة السياسيين والعسكريين يقولون فيها إنهم سيستهدفون المدنيين أو يرفضون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين، أو يحملون شعبًا بأكمله المسؤولية. لكننا رأينا ذلك بالضبط في هذه الحالة".

أما البروفيسور عومر بارتوف، أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة في جامعة براون، فاعتبر أن أهداف الحرب كانت أساسية في تحديده للإبادة.

وقال لـ "ميدل إيست آي": "رأيي أصبح أن أهداف الحرب التي أعلنتها إسرائيل – وهي تدمير حماس وتحرير الرهائن بحلول ربيع 2024 – لم تكن هي الأهداف الفعلية. فالجيش الإسرائيلي لم يكن يحاول تدمير حماس أو تحرير الرهائن. بل كان يحاول جعل غزة غير قابلة للعيش لسكانها".

لذلك لا تتردد MEE في وصف ما تواصل إسرائيل فعله في غزة والضفة الغربية المحتلة بأنه إبادة جماعية.

لم يعد الأمر "إبادة محتملة" كما قالت محكمة العدل الدولية أولًا. لم يعد إبادة بين علامتي اقتباس. إنها إبادة، وبالكامل.

فزّاعات مريحة

السياسيون الغربيون الذين دافعوا على مدى 22 شهرًا عن "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" – ومن بينهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني فريدريش ميرتس، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر – والذين يتظاهرون الآن بالرعب من التجويع الجاري، يلقون كل اللوم على نتنياهو وبن غفير وسموتريتش.

صحيح أن الأدلة كافية لمحاكمة كل واحد منهم بجرائم حرب. لكن هؤلاء مجرد فزّاعات مريحة. التركيز عليهم وحدهم يصنع وهماً آخر.

الوهم هو أنه إذا سقط نتنياهو والصهيونيون الدينيون من الحكم، فإن إسرائيل ستعود تلقائيًا إلى قيادة بلا نوايا هيمنية.

هؤلاء القادة الغربيون يوحون بأن إسرائيل بقيادة "الأكثر براغماتية" نفتالي بينيت ستتفاوض مع حماس على إعادة الرهائن وإنهاء الحرب في غزة. ومع الوقت، سيظهر كيان فلسطيني. وعند استئناف المفاوضات مع القيادة الفلسطينية، ستوقّع السعودية اتفاقات أبراهام، وسيعود كل شيء بسحرية إلى 6 تشرين الأول / أكتوبر 2023، عشية هجوم حماس.

لكن هذا مجرد عالم أوهام.

أولئك الذين يطلقون على أنفسهم "أصدقاء إسرائيل" – والذين عليهم أن يسألوا أنفسهم الآن إن كانوا يريدون أن يُذكروا كـ"أصدقاء" للفصل العنصري والإبادة – دافعوا بإصرار عن حق إسرائيل في حماية حدودها.

لكن بعد 22 شهرًا من الحملة على غزة، يتضح أن الحدود القائمة لإسرائيل ليست سوى محطة عابرة في الطريق الجماعي نحو الهدف النهائي: أرض إسرائيل التوراتية.

ومع هزيمة قواتها لكل جار على التوالي – أولًا غزة، ثم لبنان، ثم إيران، والآن سوريا أيضًا – ومع احتلال القوات الإسرائيلية لغزة ومواقع في لبنان ومساحات واسعة من جنوب سوريا، بدأت خرائط جديدة بالظهور، تطالب بمناطق تتجاوز خطوط توقف قواتها الغازية.

توسيع الحدود

لم يكن ذلك محض صدفة. ففي مقابلة الأسبوع الماضي مع قناة i24، حين قُدّم لنتنياهو تعويذة تحمل خريطة "أرض الميعاد"، وسُئل إن كان يشعر بالارتباط بهذه الرؤية لـ"إسرائيل الكبرى"، أجاب: "بالتأكيد".

وقال نتنياهو: "أنا في مهمة أجيال – هناك أجيال من اليهود حلمت بالمجيء إلى هنا، وأجيال أخرى ستأتي من بعدنا".
وأضاف: "إذا كنت تسأل إن كان لدي شعور برسالة تاريخية وروحية، فالجواب نعم".

أما الخريطة نفسها فقد أُخفيت عن المشاهدين، لكنها معروفة جيدًا. أرض الميعاد تشمل كل الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى أجزاء من الأردن ولبنان ومصر وسوريا والعراق والسعودية.

العام الماضي، صُوّر سموتريتش وهو يدعو إلى توسيع حدود إسرائيل لتشمل دمشق.

وليس الأمر جديدًا. ففي كانون الثاني / يناير 2024، قال السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين: "في النهاية، ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، أي السعودية، ثم من المتوسط إلى الفرات. ومن على الضفة الأخرى للفرات؟ الأكراد! والأكراد أصدقاء".

وأضاف: "لذلك سيكون لدينا المتوسط وراءنا، والأكراد أمامنا، ولبنان الذي يحتاج حقًا إلى مظلة حماية إسرائيل، ثم سنأخذ – أعتقد أننا سنأخذ مكة والمدينة وجبل سيناء، لتطهير تلك الأماكن".

حان وقت الاستفاقة

تيودور هرتزل، مؤسس الصهيونية السياسية، كتب في يومياته أن الدولة اليهودية يجب أن تمتد "من نهر مصر إلى الفرات". والعبارة مأخوذة من سفر التكوين، حيث يمنح الله إبراهيم وذريته أرضًا شاسعة.

بعض الإسرائيليين يشيرون إلى رؤية أضيق وردت في سفر التثنية. آخرون يستشهدون بسفر صموئيل الذي يصف الأراضي التي سيطر عليها الملكان شاول وداوود، بما يشمل فلسطين ولبنان وأجزاء من الأردن وسوريا. لكن بالنسبة للجميع، يبقى السعي وراء "إسرائيل الكبرى" تنفيذًا لتكليف إلهي.

الجديد ليس في الفكرة، بل في أن إسرائيل باتت تملك الوسائل العسكرية لتحويل رؤيتها إلى واقع.

الإبادة التي تُشن ضد الفلسطينيين ليست نتيجة غير مقصودة لشعب متغربن استبد بالأرض التي احتلها. وليست حكرًا على الصهيونية الدينية التي تمثل مجرد جزء من الطيف السياسي.

بل إن هذه الإبادة تعبّر عن تحقيق حلم أعمق بكثير: عودة اليهود إلى "أرض الميعاد".

والعائق الوحيد أمامهم هو الشعب الفلسطيني، الذي – مسلحًا كان أو أعزل – يرفض مغادرة الأرض التي هي حقه.

وإذا توقفت حملة نتنياهو الآن، فسيكون التوقف مؤقتًا. فلن يأمر أي زعيم إسرائيلي بالانسحاب من سوريا أو لبنان. الجولان ضائع إلى الأبد. ولن يسحب أي زعيم إسرائيلي نحو مليون مستوطن من الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية.

وجيران إسرائيل غافلون عن الخطر الذي يواجهونه. هذا ليس تهديدًا يمكن التفاوض بشأنه – ولا تهديدًا ستوقفه واشنطن.

فقط ميثاق أمني إقليمي، تنفذه جيوش حديثة تتدخل لمؤازرة بعضها البعض، يمكن أن يوقف التوسع الإسرائيلي ويحمي الدول الوطنية الفتية في الشرق الأوسط. عليهم أن يستفيقوا، وبسرعة.


المصدر: Middle East Eye

الكاتب: غرفة التحرير




روزنامة المحور