في أزقة السياسة الإسرائيلية المظلمة، لا تأتي الإقالات عبثاً، خاصة عندما يكون المُقال هو رئيس جهاز الشاباك. ما يجري مؤخراً في كيان الاحتلال لا يمكن اختزاله في قرار إداري أو إعادة هيكلة مؤسسية، نحن أمام محاولة مكشوفة من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإعادة ترتيب البنية الأمنية وفقاً لأولويات بقائه السياسي والشخصي.
فإقالة رونين بار -في هذه اللحظة تحديدًا- لا تشير فقط إلى أزمة ثقة بين رئيس الوزراء والجهاز الأمني الأهم داخل "إسرائيل"، بل تفضح اضطراباً أعمق: تفكك الثقة بين القيادة السياسية والمؤسسات الأمنية، وتحديداً تلك التي تتولى حفظ النظام الداخلي. فالشاباك لم يكن فقط طرفاً تقنياً في الفشل الأمني في 7 أكتوبر، بل تحوّل مع الوقت إلى "شاهد ملك" يُهدد بفتح ملفات قد تُسقط نتنياهو نفسه.
ما تسرب مؤخراً عن نيّة الشاباك التوسّع في تحقيقاته الداخلية، بما في ذلك مساءلة محتملة لمسؤولين مقربين من نتنياهو، قد يكون القطرة التي أفاضت كأس رئيس الوزراء. نتنياهو لم يُقِل بار لأنه فشل في حماية مستوطنات غلاف غزة فقط، بل لأنه بات يشكل تهديداً على "الحصانة غير المعلنة" التي يستند إليها نتنياهو منذ سنوات. فهل يخشى نتنياهو من انقلاب صامت داخل المنظومة الأمنية؟ ربما. لكنه بالتأكيد يخشى من لحظة تقاطُع فيها التحقيق الأمني مع ملفات الفساد القديمة التي ما زالت تلاحقه.
ردة فعل الشارع الإسرائيلي، الذي لم ينزل فقط لمعارضة قرار الإقالة بل ربط ذلك بفشل سياسي شامل، تعبّر عن تحول أعمق. الإسرائيليون -خصوصاً من اليمين غير المتدين- بدأوا يدركون أن نتنياهو بات يحكم كما يحكم زعماء الجمهوريات المصطنعة: بتصفية الخصوم من داخل المؤسسات، لا عبر صناديق الاقتراع. إن ما نراه اليوم هو أول شرخ جدي بين نتنياهو وقطاعات كانت تصوت له، لكنها لم تعد تحتمل أن تُقاد البلاد كأنها مشروع شخصي للهرب من السجن.
ملف الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة في غزة بات عبئاً على نتنياهو، أيضاً، لا ورقة تفاوض. فكلما اقتربت المقاومة من تليين المواقف عبر وساطات، عاد نتنياهو ليُجمّد العملية أو يُعيد رسم شروطها. ما حدث مع بار يُفسّر ذلك جزئياً: نتنياهو يريد مفاوضاً يضبط إيقاع الصفقات وفق جدول إنقاذه السياسي، لا وفق ضرورات الأمن القومي. والمفارقة أن بعض أهالي الأسرى باتوا أكثر قرباً من المعارضة، بل ويعتبرون نتنياهو جزءاً من عرقلة عودة الأسرى.
من جهة أخرى، بينما يتباهى الجيش الإسرائيلي بـ"تفكيك ألوية حماس" في الجنوب، تتآكل أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي بهدوء. التخفيضات الضخمة في ميزانية 2025 ليست إلا انعكاساً لحقيقة واحدة: الحرب على غزة لم تعد مستدامة اقتصادياً. لكن الأخطر من كل ذلك أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى بدأت تُلمّح إلى أن استمرار نتنياهو نفسه بات يشكّل "مخاطرة اقتصادية"، وهو مصطلح لم يُستخدم ضد رئيس وزراء إسرائيلي منذ عام 2006.
خفض التصنيف الائتماني، تجميد الاستثمارات التكنولوجية، انهيار السياحة، وتآكل ثقة الشركات في التزامات الحكومة: كلها إشارات إلى أن إسرائيل باتت تواجه "حرباً داخلية خفية" ليست بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بل بين الاقتصاد والسياسة.
ما تعيشه إسرائيل اليوم ليس مجرد أزمة حكم أو تراجع اقتصادي أو خلافات داخلية. نحن أمام لحظة تاريخية قد تتؤثر بشكل مباشر على تفكك اي كيانات، خاصة الاسرائيلي الذي قام عليها: الأمن، الردع، الإجماع الوطني. في هذه اللحظة، تحوّل الشاباك من أداة للنظام إلى طرف في الأزمة. وتحول نتنياهو من سياسي متمكن إلى رجل قلق، يُدير الكيان بمنطق البقاء لا بمنطق الحكم.
هذه ليست معركة على كرسي أو على صلاحيات، بل هي معركة على تعريف الكيان نفسه: هل إسرائيل هي دولة المؤسسات، أم دولة الرجل الواحد؟ هل تدار السياسة الإسرائيلية بعقل أمني جماعي، أم بقرارات فردية تهدف إلى تعطيل العدالة بأي ثمن؟ الأسئلة كثيرة، لكن المؤكد أن إسرائيل ما بعد 2025 لن تكون كما قبلها. لا لأن غزة غيّرت قواعد الاشتباك، بل لأن نتنياهو، في سعيه للبقاء، غيّر قواعد اللعبة السياسية الداخلية.
الكاتب: غرفة التحرير