يُعدّ التطبيع مع إسرائيل من أكثر القضايا حساسية وتعقيداً في لبنان، نظراً للسياقات التاريخية والسياسية والقانونية التي تحكم العلاقة بين لبنان وكيان الاحتلال. فمنذ تأسيس الاحتلال عام 1948، تبنّى لبنان موقفاً رسمياً رافضاً للتطبيع، ورغم أن لبنان لا يزال ملتزماً بموقف المقاطعة الرسمي، إلا أن ضجيج بعض الشخصيات والقوى اللبنانية بدأ يرتفع داعين إلى سلام مع "إسرائيل"، خصوصاً بعد الحرب على لبنان في أيلول 2024، وفي ظل ضغط أميركي متصاعد في الساحة السياسية اللبنانية.
لكن تقف الكثير من القوى الرسمية والشعبية اللبنانية وعلى رأسها حزب الله سداً منيعاً أمام أي مسار لتطبيع العلاقات مع العدو، انطلاقاً من تمسكهم بالقضية الفلسطينية إلى جانب وفائهم لدماء الشهداء اللبنانيين والفلسطينيين والعرب. بالإضافة إلى شرعية قانونية متمثّلة بالقوانين اللبنانية التي لا تسمح ببناء علاقات مع كيان الاحتلال، أو أي تعامل أو تفاعل اقتصادي، فضلاً عن الاعتراف بالكيان الإسرائيلي.
ما هي الصيغ القانونية المواجهة للتطبيع؟
قانون "مقاطعة إسرائيل" الصادر عام 1955 يمنع أي تعامل تجاري أو اقتصادي أو دبلوماسي مع الكيان الصهيوني.
تم إصدار قانون مقاطعة اسرائيل لعام 1955 :قانون يهدف إلى منع أي تعامل أو تفاعل تجاري، اقتصادي، أو دبلوماسي مع إسرائيل. ويعد هذا القانون جزءًا من السياسة اللبنانية الرسمية التي اتخذت موقفاً قوياً ضد الكيان الصهيوني منذ قيامه في عام 1948، ويمثل تعبيراً عن التضامن مع القضية الفلسطينية ودعم حقوق الفلسطينيين.
أهداف القانون:
- رفض الاعتراف بإسرائيل: يأتي القانون في إطار مقاطعة إسرائيل كدولة ورفض الاعتراف بها أو التعامل معها.
- دعم القضية الفلسطينية: كان القانون موجهًا لتعزيز التضامن العربي والفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وللضغط على إسرائيل عبر قطع العلاقات الاقتصادية والسياسية.
- إضعاف إسرائيل اقتصادياً: يهدف إلى حرمان إسرائيل من فرص التجارة والاستثمار في لبنان أو عبر لبنان، مما يضعف قدرتها على التوسع الاقتصادي في المنطقة.
أهم بنود القانون:
- منع أي شكل من أشكال التعامل مع إسرائيل: يشمل التبادل التجاري مثل تصدير واستيراد السلع، الاستثمار، التعاون الاقتصادي، العلاقات الدبلوماسية، أو أي تعاملات مالية أو ثقافية.
- منع التعامل مع الشركات أو الأشخاص المرتبطين بإسرائيل: ينص القانون على مقاطعة أي شركات أو أفراد يقومون بتعاملات مع إسرائيل أو الذين لديهم مكاتب تمثيلية لها في لبنان.
- تشديد العقوبات: القانون يفرض عقوبات قاسية على الأفراد والشركات التي تقوم بخرق هذه المقاطعة، بما في ذلك الغرامات المالية الكبيرة والسجن.
- رقابة على التبادل التجاري عبر وسطاء: حتى إذا كانت البضائع لا تأتي مباشرة من إسرائيل، فإن أي تجارة تمر عبر إسرائيل أو دولها الحليفة يتم منعها أو فرض ضرائب مشددة عليها.
- منع السفر إلى إسرائيل: يتم أيضاً فرض قيود على السفر إلى إسرائيل، أو زيارة دول أخرى تتعاون معها، كجزء من سياسة منع توسيع نطاق التعاون الإسرائيلي في لبنان.
التأثيرات القانونية والإدارية:
- الإدارة الحكومية: الحكومة اللبنانية وضعت آليات رقابة على الأفراد والشركات للتأكد من أنهم لا ينتهكون القانون. وقد شُكلت هيئات حكومية لمراقبة تنفيذ القانون بشكل صارم.
- الانتهاكات والعقوبات: أي انتهاك للقانون كان يُعرض الشخص أو الشركة إلى ملاحقة قانونية وتشمل العقوبات السجن أو الغرامات، وقد تُصدر الحكومة قرارات بمقاطعة الشركات والأفراد المتورطين في مثل هذه التعاملات.
- إلغاء أي اتفاقيات مع إسرائيل: تشمل سياسة المقاطعة جميع الاتفاقيات الاقتصادية أو التجارية التي قد تكون مرتبطة بأي شكل مع الكيان الصهيوني.
في عقود لاحقة، شهد لبنان محاولات من قبل أطراف محلية أو دولية لتخفيف هذا القانون أو تعديل بعض بنوده، لكن قانون المقاطعة بقي سارياً حتى يومنا هذا. ورغم الضغوط الدولية التي مورست على لبنان، إلا أن الحكومة اللبنانية رفضت تعديل أو إلغاء القانون، بل على العكس، تمت تعزيز الرقابة على بعض الأنشطة الاقتصادية التي قد ترتبط بشكل غير مباشر مع إسرائيل. في السنوات الأخيرة، كان هناك حديث عن تخفيف تطبيق القانون في بعض الحالات، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية الكبيرة التي يواجهها لبنان. مع ذلك، فإن التيارات السياسية المعارضة للتطبيع في لبنان، وخاصة حزب الله وحلفائه، يتمسكون بالقانون كجزء من موقفهم المناهض لإسرائيل.
إنّ قانون مقاطعة إسرائيل (1955) يعد مؤشراً على الموقف اللبناني الثابت في دعم القضية الفلسطينية ورفض أي نوع من التطبيع أو التعاون مع إسرائيل. هذا القانون يحظر التعاملات التجارية، الاقتصادية، أو الدبلوماسية مع إسرائيل، ويعكس السياسة اللبنانية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والتزامها بالقيم العربية والفلسطينية. إنّ لبنان هو جزء من جامعة الدول العربية التي تتبنى موقفاً رسمياً رافضاً للتطبيع، رغم تفاوت مواقف الدول الأعضاء. كما أنّ أي خطوة تطبيعية تتطلب إما تعديلاً قانونياً أو تجاوزاً ضمنيّاً للقوانين القائمة، وهو ما يواجه معارضة قوية.
اتفاق الطائف في عام 1989
اتفاق الطائف هو الوثيقة السياسية التي أنهت الحرب الأهلية اللبنانية وأرست أسس النظام السياسي الجديد في لبنان. فيما يتعلق بالتطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، لم يأتِ الاتفاق على ذكر التطبيع بشكل مباشر، إنّ تعديل اتفاق الطائف الآن، قد يجر إلى فتح ملفات كثيرة في النظام السياسي أصبحت تحتاج إلى تعديل مع التحولات الديموغرافية والاقتصادية والأمنية الحاصلة. لكن تجدر الإشارة إلى أنه لن يكون مجرد خطوة تقنية أو إصلاحية، بل سيؤدي إلى فتح ملفات حساسة مثل التوزيع الطائفي، مستقبل اللاجئين، الاقتصاد، وسلاح حزب الله، ما قد يؤدي إما إلى إعادة بناء نظام جديد أو إلى أزمة سياسية عميقة تهدد استقرار لبنان.
للتذكير أكد اتفاق الطائف على المبادئ التالية التي توضح موقف لبنان من العلاقة مع كيان الاحتلال:
- التأكيد على العداء لإسرائيل
- ورد في الاتفاق أن لبنان ملتزم بالقضية الفلسطينية ويدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
- أكد الاتفاق على أن لبنان يجب أن يلتزم بقرارات الشرعية الدولية فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو ما يعني تبنّي موقف الجامعة العربية تجاه إسرائيل في ذلك الوقت، والذي كان قائماً على رفض التطبيع قبل حل القضية الفلسطينية.
- الانسحاب الإسرائيلي واحترام السيادة اللبنانية
- نص الاتفاق على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة، في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان آنذاك.
- شدد على رفض التوطين الفلسطيني في لبنان، مما يعكس موقفًا لبنانياً ثابتاً من أي تسوية قد تشمل بقاء اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كجزء من حل إقليمي للصراع.
- العلاقات العربية والتفاوض في إطار الشرعية الدولية
- لم يأتِ الاتفاق على ذكر صريح للتطبيع، لكنه أكد أن أي خطوة لبنانية في هذا المجال يجب أن تكون متوافقة مع الإجماع العربي والشرعية الدولية.
- الاتفاق أشار إلى ضرورة التفاوض من خلال مؤتمر مدريد للسلام (الذي كان قائماً حينها)، وهو ما يعني أن أي تحرك لبناني تجاه إسرائيل مشروط بمسار التسوية السلمية العامة.
- الشروط اللبنانية فيما يتعلق بإسرائيل: استناداً إلى روح الاتفاق، يمكن تلخيص موقف لبنان على الشكل التالي:
1- لا تطبيع قبل الحل العادل والشامل للقضية الفلسطينية.
2- لا اعتراف بإسرائيل قبل حل قضايا الاحتلال، وعودة الأراضي اللبنانية المحتلة بالكامل.
3- رفض أي تسوية على حساب السيادة اللبنانية، ورفض التوطين.
لم يذكر اتفاق الطائف التطبيع بشكل مباشر، لكنه أسّس لسياسة لبنانية قائمة على عدم الاعتراف بإسرائيل إلا في سياق حل عربي شامل. كما اشترط انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة وضمان الحقوق الفلسطينية، مما يعني أن أي مسار تطبيع لبناني سيكون مشروطاً بهذه العوامل. من الصعب التكهن بنجاح أي خطوة نحو مسار التطبيع طالما أن القوانين والمواثيق لا تزال تؤكد بأن الكيان هو عدو (لم تذكر التطبيع صراحة)، وعليه، فإن أي خطوة في مسار التطبيع تتطلب تعديلات قانونية معقدة تستلزم توافقاً لبنانياً سياسياً وشعبياً على هذا المسار وهذا ما يصعب بل ربما يستحيل تحقيقه في الوقت الحالي نظراً لعدم توفر مناخ سياسي وشعبي مناسب لذلك.
إنّ الضغوط على لبنان للمضي في التطبيع مع الكيان المؤقت يأتي ضمن مشروع إقليمي واسع يهدف إلى دمج إسرائيل في المنطقة، وإعادة ترتيب التحالفات السياسية والاقتصادية. في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة، تحاول بعض القوى استغلال الوضع للضغط على لبنان، سواء من خلال المساعدات المالية، مشاريع الغاز، أو تحجيم حزب الله. لكن في المقابل، أي محاولة تطبيع ستواجه رفضاً داخلياً قوياً، وقد تؤدي إلى تصعيد سياسي وأمني يعمّق الانقسامات داخل لبنان.
الكاتب: غرفة التحرير