في السياسة، كما في الحروب، لا شيء يحدث مصادفة. اعتقال السلطات السورية لقياديين بارزين في حركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية، بعد أيام فقط من زيارة محمود عباس إلى دمشق، ليس مجرد إجراء أمني فقط أو قرار سياسي داخلي. إنه انعكاس مباشر لتحولات أوسع، تجري بصمت وخلف الكواليس، في المشهد الإقليمي والدولي بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود إدارة سورية جديدة تبحث عن تموضع مختلف تمامًا عن مرحلة ما قبل ديسمبر 2024.
منذ الثمانينيات، كانت دمشق تُعتبر ملاذًا للفصائل الفلسطينية "الرافضة" للاتفاقيات والتسويات، بدءًا من "فتح الانتفاضة" إلى "الجهاد" و"حماس"، وحتى الجبهة الشعبية – القيادة العامة. وقد ارتبط هذا الاحتضان بموقع سوريا الجيوسياسي وموقفها العلني من "إسرائيل"، وكذلك بتحالفها الاستراتيجي مع إيران. لكن، ما إن انقشعت غمامة نظام الأسد، حتى برزت الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقات السورية-الفلسطينية، لا من منطلقات المقاومة، بل من بوابة المصلحة، والاستجابة لضغوط دولية متصاعدة.
سوريا الجديدة: طيّ مرحلة وبداية أخرى
منذ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، سادت حالة من الغموض بشأن التوجهات الإقليمية للنظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع. ورغم "الخطاب الوطني" الذي أكد على الاستقلالية والسيادة، فإن مجريات الأحداث الأخيرة تشير إلى بداية عملية "إعادة هندسة" للعلاقة بين سوريا والفصائل الفلسطينية، تحديدًا تلك التي تُصنف كـ"أذرع إيرانية" كحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
اعتقال خالد خالد، مسؤول الجهاد في سوريا، وياسر الزفري، مسؤول اللجنة التنظيمية، لم يكن مجرد إجراء أمني فقط. بل هو أول سابقة من نوعها منذ عقود، خاصة أن سوريا كانت حتى اللحظة الأخيرة تعتبر الحاضنة التاريخية للمقاومة الفلسطينية. هذا الانقلاب في الموقف لا يمكن قراءته إلا من خلال عدسة الضغط الأميركي -الإسرائيلي"، وما يُشاع عن شروط مقابل رفع العقوبات.
واشنطن تُملِي… ودمشق تنفذ؟
عدة مصادر إعلامية تحدثت عن "قائمة شروط" أميركية وضعتها إدارة ترامب أمام سوريا الجديدة، في إطار مفاوضات غير مباشرة عبر وسطاء عرب وأوروبيين. من بين هذه الشروط: تفكيك العلاقة مع الفصائل الفلسطينية المدعومة من إيران، طرد أو تحييد القيادات الفلسطينية غير التابعة لمنظمة التحرير، وضبط الحضور الأمني الإيراني في البلاد. اللافت أن هذه الاشتراطات تتلاقى، إلى حد بعيد، مع المطالب "الإسرائيلية" القديمة التي ظلت تُرفَض من قبل النظام السوري السابق.
وبينما لم يصدر تأكيد رسمي لهذه التسريبات، فإن توقيت الاعتقال، وسبقه من تحركات أميركية- "إسرائيلية" مكثفة تجاه الملف السوري، يؤكدان أن شيئًا ما يُطبخ على نار هادئة، وقد بدأ تنفيذه فعلاً.
"الجهاد الإسلامي" كأداة اختبار
ليس من العبث أن تُستهدف "الجهاد الإسلامي" تحديدًا في هذا التوقيت. فالحركة تُعتبر، إلى جانب حليفها الأيديولوجي "حماس"، ذراعًا مركزية لمحور المقاومة المدعوم إيرانيًا، لكنها في الوقت ذاته أقل تنظيمًا ومؤسسية من حماس، ما يجعلها هدفًا أنسب لـ"البروفة الأولى". فاعتقال قيادييْن من "الجهاد" لا يجرّ ردات فعل عارمة كما قد يحدث في حال استهداف حماس مثلًا، لكنه يُرسل إشارة واضحة لطهران: التحالفات القديمة لا تصلح دائمًا في السياق الجديد.
ومما يزيد من دلالة هذا الاعتقال، أن الحركة نفسها أعلنت في بيانها أن بندقيتها لم تنحرف يومًا عن هدفها، وهو تحرير "التراب الفلسطيني الكامل". هذا التذكير لا يأتي فقط في إطار الدفاع عن النفس، بل يعكس صدمة حقيقية من خيانة ضمنية، إذ لم تتوقع أن تُعامل كطرف خارجي أو عنصر خطر بعد عقود من الوجود داخل سوريا "المقاومة".
محمود عباس كـ"عرّاب تنسيق" جديد؟
زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى دمشق ليست منفصلة عن هذا السياق. بل تكشف عن محور جديد من التنسيق الأمني والسياسي بين السلطة الفلسطينية والنظام السوري الجديد. فمنذ العام 2007، بعد انقسام الضفة وغزة، لعب عباس دور "الممثل الشرعي" المتوافق عليه غربيًا "وإسرائيليًا"، وراكم أرشيفًا حافلاً في التنسيق الأمني مع الاحتلال.
السؤال المشروع هنا: هل كان اعتقال قياديي الجهاد شرطًا أميركيًا، ووساطة عباس جزءًا من طمأنة واشنطن بأن سوريا الجديدة "تغسل يديها" من محور المقاومة؟ هل عباس، الذي لطالما نُظر إليه كصاحب اليد الطولى في طرد خصومه، كان حاملاً لرسائل سياسية وأمنية إلى دمشق؟ وما معنى أن يأتي الاعتقال بعد 48 ساعة من لقائه الرئيس السوري؟
المقاومة "تُدفع" خارج دمشق
الإشارات القادمة من دمشق لا تقف عند حدّ الجهاد الإسلامي. تقارير صحفية تتحدث عن إغلاق شبه كامل لمقار الفصائل الفلسطينية، سواء كانت موالية أو معارضة للنظام السابق، بما فيها مقرات جبهة النضال الشعبي، القيادة العامة، فتح الانتفاضة، وحتى الصاعقة. هذا يشير إلى تطهير شامل للساحة السورية من الفاعلين الفلسطينيين المسلحين، واحتكار التمثيل في يد "الرسميين" وحدهم، أي منظمة التحرير بمكوّنها الفتحاوي.
لكن هذا "الانسحاب القسري" لا يعني ببساطة إعادة ترتيب داخلي، بل يعكس خضوعًا لميزان قوى إقليمي جديد، يتضمن تموضعًا مختلفًا لسوريا في المعادلة. وكأن لسان حال الحكومة السورية الجديدة يقول: لا صوت يعلو فوق صوت المصالح، ولا مكان إلا للفصائل "المنزوعة الأنياب".
"إسرائيليًا": تحقيق هدف طال انتظاره
لطالما طالبت "إسرائيل" بإبعاد الفصائل الفلسطينية عن الساحة السورية. القصف الإسرائيلي المتكرر على مقرات الجهاد الإسلامي في دمشق، وآخرها استهداف منزل غير مأهول لأمين عام الحركة زياد النخالة في مارس الماضي، كان بمثابة رسائل نار إلى من يعنيهم الأمر.
وبما أن الولايات المتحدة تبنت تلك المطالب ضمن حزمة شروطها لرفع أو تخفيف العقوبات، فإن دمشق بدأت، على ما يبدو، بتقديم "أوراق حسن نية". ولعل اعتقال القياديين هو بمثابة "كرت عبور" نحو مفاوضات اقتصادية مع واشنطن. فالثمن الأميركي ليس قليلًا، لكن يبدو أن النظام الجديد يرى أنه يستحق الدفع.
مستقبل العلاقة: هل تنتهي الحاضنة التاريخية؟
منذ ثمانينيات القرن الماضي، شكلت دمشق رئة سياسية وعسكرية للفصائل الفلسطينية الرافضة لاتفاق أوسلو، والمصنفة كمنظمات مقاومة حقيقية. واحتفظت بدورها هذا حتى في أصعب الظروف، بما فيها الحرب السورية. اليوم، يبدو أن هذه الصفحة تُطوى. فمنذ سقوط النظام، تحوّلت الحسابات من العقيدة إلى المصلحة، ومن الثوابت إلى شروط البنك الدولي.
لن يكون مفاجئًا، إن استمر هذا النهج، أن تُطلب من الفصائل الفلسطينية لاحقًا مغادرة الأراضي السورية، أو أن تُفرض قيود على تحركاتها وبياناتها الإعلامية. وهذا سيعيد خريطة الوجود الفلسطيني المقاوم إلى دائرة ضيقة ومحاصرة، خاصة في ظل الحرب والحصار القائم على غزة، والضغوط في لبنان، والتشظي الإقليمي.
دمشق ما بعد الأسد: هل نعيش لحظة ما بعد "ما بعد المقاومة"؟
اعتقال قياديي الجهاد الإسلامي في سوريا، بهذا الشكل، ومن دون تهم معلنة، ليس حدثًا عابرًا. إنه أحد العناوين البارزة لمرحلة انتقالية في العلاقة بين الدولة السورية ومحور المقاومة. إنه يعكس ـ بشكل غير مباشرـ مدى تأثير اليد الأميركية على السياسات المحلية، حتى في العواصم التي كانت ترفض تلك اليد بالأمس.
ولعل السؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل يشكّل هذا السلوك بداية قطيعة نهائية مع الفصائل الفلسطينية المعارضة؟ أم أنه مجرد فصل مؤقت في رواية طويلة، تعود فيها سوريا مجددًا إلى محور المقاومة لكن بشروط أكثر براغماتية؟ في الواقع، ليس من السهل تقديم إجابة قاطعة، لكن المؤكد أن الاعتقال كأداة سياسية يعكس تحوّلًا جذريًا في علاقة سوريا بالقضية الفلسطينية.
لكن السؤال الأكبر هو: هل المقاومة الفلسطينية ـ كفكرة ومشروع ـ باتت عبئًا حتى على حلفائها التقليديين؟ وهل تعني هذه التحولات أننا بصدد مرحلة "ما بعد ما بعد المقاومة"، حيث تُفرّغ الكلمة من معناها، وتُستبدل ببروتوكولات "دعم الشعب الفلسطيني" تحت إشراف أجهزة تنسيق أمني مشتركة؟
حيث أن الخطورة ليست فقط في القمع، بل في القدرة على جعله يبدو “شرعيًا” و”ضروريًا” و”إجرائيًا”. وما يجري في دمشق اليوم، للأسف، مثال صارخ على ذلك.
هذا المقال يعبر عن رأي الكاتب ولا يعكس بالضرورة رأي الموقع
كاتب صحفي فلسطيني
بكالوريوس في الصحافة والإعلام
دكتوراه في الحقوق
[email protected]