يستعرض هذا المقال للدكتور ولي نصر الذي نشره موقع مجلة "فورين آفيرز – Foreign Affairs" وترجمه موقع الخنادق الإلكتروني، توازن القوى الجديد في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً ما بعد عملية طوفان الأقصى. وبحسب نصر، فإن الحرب على غزة غّيرت المشهد الجيوسياسي في المنطقة. فقبل عملية السابع من أكتوبر، كانت السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى تتقاسم مع إسرائيل نظرة ترى في إيران وحلفائها هم التهديد الأكبر في المنطقة، ولذلك كانوا يرفضون حصول اتفاق نووي معها. فيما اليوم يرون العكس (الدول العربية)، لأن اندلاع حرب جديدة مع إيران سيكون خطرًا جسيمًا، وأن الحل الدبلوماسي مع طهران أمرًا حيويًا لأمن المنطقة واستقرارها، بشكل مخالف لما تريده إسرائيل.
النص المترجم:
خلال زيارته إلى الشرق الأوسط في شهر أيار / مايو، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعدة خطوات لم يكن ليتوقعها أحد قبل أشهر أو حتى أسابيع. من بين هذه الخطوات لقاؤه المفاجئ مع القائد الجديد لسوريا، أحمد الشرع، ورفع العقوبات الأميركية المفروضة على سوريا لاحقًا، على الرغم من خلفية الشرع كقائد سابق لجماعة إسلامية متشددة. كما قرر ترامب عدم إدراج إسرائيل في جدول زيارته، رغم الجهود المستمرة لإدارته لإنهاء الحرب في غزة. وجاءت الزيارة بعد قرار الإدارة في مطلع أيار / مايو توقيع اتفاق وقف إطلاق نار ثنائي مع الحوثيين في اليمن دون التشاور مع إسرائيل أو إشراكها. وإلى جانب مبادرة ترامب بإجراء محادثات مباشرة مع إيران—وهي خطوة تعارضها إسرائيل بشدة لكنها حظيت بترحيب وتسهيل من قادة عرب في الخليج—تشير هذه التطورات إلى مدى تغير ميزان القوى الإقليمي منذ هجوم حماس على إسرائيل في السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023.
لقد غيّرت الحرب في غزة المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. فقبل هجوم السابع من أكتوبر، كانت السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى تتقاسم مع إسرائيل نظرة ترى في إيران وتحالفها من الجماعات الوكيلة التهديد الأكبر في المنطقة. وقد دعمت هذه الدول حملة "الضغط الأقصى" التي أطلقها ترامب في ولايته الأولى ضد طهران، وبدأت خطوات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. أما اليوم، فقد تغيّر الوضع بشكل جذري. فبعد مرور عشرين شهرًا على الحرب، باتت طهران تبدو أقل تهديدًا للعالم العربي، في حين أصبحت إسرائيل تُنظر إليها أكثر فأكثر كقوة مهيمنة في المنطقة.
وسط هذه المستجدات، أصبحت الولايات المتحدة تجد نفسها أمام حلفاء عرب وإسرائيل يقفون في معسكرين متقابلين فيما يخص جدوى التوصل إلى اتفاق نووي جديد. لا تزال إسرائيل ترى في هذا الاتفاق طوق نجاة للجمهورية الإسلامية، وتحثّ إدارة ترامب على اتخاذ إجراء عسكري لتدمير المنشآت النووية الإيرانية بدلاً من التفاوض. أما دول الخليج، فترى في اندلاع حرب جديدة غير قابلة للاحتواء على حدودها خطرًا جسيمًا، وتعتبر الحل الدبلوماسي مع طهران أمرًا حيويًا لأمن المنطقة واستقرارها. وهي تخشى أيضًا من خلق شرق أوسط تملك فيه إسرائيل حرية التصرف الكاملة—حتى في حال استمرار مسار التطبيع معها. وفي سعيها لتحقيق توازن جديد بين إيران وإسرائيل، أصبحت دول الخليج لاعبين رئيسيين في مساعي ترامب لإبرام اتفاق نووي جديد، وتهدف، من خلال ذلك، إلى أن تصبح هي محور النظام الإقليمي المعاد تشكيله.
فشل الضغط
لفهم مدى تحوّل موقف دول الخليج تجاه إيران، من الضروري استرجاع رد فعل السعودية والإمارات على أول اتفاق نووي بين الولايات المتحدة وإيران قبل عقد من الزمن. فعندما وقّعت إيران والولايات المتحدة على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في تموز / يوليو 2015، كانت دول الخليج تشارك إسرائيل قلقها من أن الاتفاق سيعزز النفوذ الإقليمي لإيران.
في ذلك الوقت، كان العالم العربي لا يزال يتعافى من تداعيات الانتفاضات الشعبية التي اندلعت خلال ما عُرف بالربيع العربي في عامي 2010–2011، والتي أطاحت بحكّام أقوياء سابقين وأشعلت حروبًا أهلية في ليبيا وسوريا واليمن. وقد استفادت إيران من هذا الاضطراب، لتوسّع نفوذها في منطقة تمتد من شبه الجزيرة العربية حتى بلاد الشام. وفي خطاب له أمام الكونغرس الأميركي في آذار / مارس 2015، حذّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قائلًا: "إيران تهيمن الآن على أربع عواصم عربية—بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء."
كانت دول الخليج العربية، مثلها مثل إسرائيل، تخشى أن تكون الولايات المتحدة قد تغاضت عن التهديد الإقليمي المتنامي الذي تمثّله الجمهورية الإسلامية وحلفاؤها، في سعيها للتوصل إلى الاتفاق النووي. وفي الشهر نفسه الذي ألقى فيه نتنياهو خطابه، أعلنت السعودية أنها تقود تدخّلًا عسكريًا في اليمن ضد الحوثيين، الجماعة المتمردة التي كانت تمدّ نفوذ إيران إلى عمق شبه الجزيرة العربية.
قد يكون كلٌّ من إسرائيل وحلفاء واشنطن في الخليج قد بالغوا في تقدير احتمال الهيمنة الإيرانية على الشرق الأوسط، غير أنه لا يمكن إنكار أن الاضطرابات التي عصفت بالعالم العربي قد أدّت إلى ترجيح كفة ميزان القوى الإقليمي لصالح إيران. فبالنسبة لمعارضي إيران في الشرق الأوسط، لم يكن الاتفاق النووي (JCPOA) يتعلق فقط بقدرات إيران النووية، بل أيضاً بنفوذها النسبي في المنطقة. ووفقاً لبنود الاتفاق، حصلت إيران على تخفيف للعقوبات مقابل موافقتها على الحد من برنامجها النووي، من دون أن يُطلب منها كبح جماح قواتها بالوكالة المنتشرة في المنطقة. ونتيجة لذلك، بدا أن الاتفاق يُنذر بتوسيع نفوذ إيران حتى في الوقت الذي يكبح فيه سعيها نحو امتلاك سلاح نووي.
لذلك، تحالفت الدول العربية مع إسرائيل لتسليط الضوء على هذا الخلل، واستخدمته في محاولة بارزة لإضعاف الاتفاق النووي. وبالإضافة إلى حملة ضغط مكثفة على أعضاء الكونغرس—والتي تجسدت رمزيًا في خطاب نتنياهو عام 2015—شملت هذه الجهود أيضاً حملة إعلامية وجماهيرية واسعة ضد الاتفاق.
وخلال ولايته الأولى، أيّد الرئيس دونالد ترامب منتقدي الاتفاق. ففي عام 2018، انسحبت الولايات المتحدة بشكل أحادي من الاتفاق النووي وأعادت فرض عقوبات اقتصادية صارمة على إيران ضمن سياسة "الضغط الأقصى". في ذلك الوقت، كانت إدارة ترامب تتوقع أن تؤدي هذه الضغوط إلى إضعاف إيران وتقليص نفوذها الإقليمي، لصالح نظام إقليمي جديد يتمحور حول إسرائيل وحلفاء واشنطن العرب. ودفعت الإدارة باتجاه توسيع التعاون الأمني والاستخباراتي بين العرب وإسرائيل، وبلغ هذا المسار ذروته في "اتفاقات أبراهام" عام 2020، التي طبّعت العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية وشمالي إفريقيا، من بينها البحرين والإمارات، ولاحقاً المغرب والسودان. كما اتخذت الإدارة موقفاً أكثر تشدداً تجاه دعم إيران لقواتها بالوكالة في المنطقة، وصل إلى حد اتخاذ قرار استثنائي باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، قائد قوة القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني، في بغداد عام 2020.
واستمرت السياسة الأميركية المتشددة تجاه إيران في عهد الرئيس جو بايدن. وعلى خلاف ما كان متوقعاً، لم تُقدم إدارة بايدن على إعادة إحياء الاتفاق النووي، بل امتنعت عن الدخول في مفاوضات مع إيران، ولم توافق على إجراء محادثات إلا بعد أن صعّدت طهران الموقف عبر تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم عالي النقاء. وتركّز اهتمام بايدن، كما كان الحال مع ترامب، على تشكيل محور عربي-إسرائيلي. وهكذا، أصبحت عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية بمثابة البوصلة الأساسية لسياسة بايدن في الشرق الأوسط. وفي الواقع، قبيل هجوم حركة حماس في 7 أكتوبر، كانت الإدارة الأميركية تظن أنها على أعتاب التوصل إلى اتفاق إسرائيلي-سعودي من شأنه أن يحقق سلاماً دائماً في المنطقة.
إسرائيل المُطلقة العِنان
كما ستُظهر الأحداث لاحقًا، فإن هذا الافتراض كان مُضللًا بشكل خطير. فقد أدّت الاستراتيجية التي اتبعتها إدارتا ترامب وبايدن إلى تفاقم التوترات الإقليمية. وردّت إيران على الضغوط الأميركية بتوسيع برنامجها النووي وزيادة دعمها للحوثيين في اليمن في حربهم ضد دول الخليج. كما بدأت إيران بشن هجمات مباشرة على المصالح الأميركية والخليجية، أبرزها استهداف منشآت النفط السعودية عام 2019. وحتى قبل هجوم 7 أكتوبر، كانت دول الخليج قد فقدت الثقة في استراتيجية واشنطن. ففي آذار / مارس 2023، كسرت السعودية الاصطفاف الأميركي وقامت بتطبيع علاقاتها مع إيران—في صفقة توسّطت فيها الصين. وكان من أولى ثمار هذه الخطوة وقف الهجمات الحوثية على السعودية والإمارات. ورغم التزام دول الخليج بتوسيع علاقاتها مع إسرائيل، فإن الحفاظ على توازن بين إيران وإسرائيل أثبت أنه أمر بالغ الصعوبة.
ثم جاءت هجمات حماس والحرب الإسرائيلية الطاحنة على غزة، التي أدّت إلى تعطيل مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية. وقد أعاد صعود ما يُعرف بـ"محور المقاومة"، المدعوم من إيران—ويشمل حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، الذين رأوا إلى جانب حماس أن احتمال تطبيع سعودي-إسرائيلي يشكّل تهديدًا وجوديًا—فتح جبهة حرب علنية ضد إسرائيل. ومع أن إدارة بايدن اعتقدت أن هذا الصراع الإقليمي الجديد سيُعزّز من الحاجة إلى تحالف أمني بين إسرائيل ودول الخليج، فإن هذه الأخيرة كانت حذرة من التورّط في الصراع. وعندما قرّر بايدن في كانون الثاني / يناير 2024 الردّ عسكريًا على هجمات الحوثيين ضد الملاحة الدولية في البحر الأحمر، حرصت كل من السعودية والإمارات على عدم الانخراط في العمليات، رغم سنوات صراعهما مع الجماعة. وكان على الدول العربية أيضًا أن تأخذ في الحسبان تصاعد الغضب الشعبي العربي تجاه ما يتعرض له سكان غزة، ما حال دون تعميق أي تعاون أمني عربي-إسرائيلي.
وفي خريف عام 2024، قلبت سلسلة من النجاحات الإسرائيلية موازين الحرب. ففي أواخر أيلول / سبتمبر، نفّذت إسرائيل ضربة جوية دقيقة أودت بحياة القيادة العليا لحزب الله، بما في ذلك أمينه العام منذ عقود، حسن نصر الله—وذلك بعد عملية استخبارية سرية ناجحة دمّرت بنية القيادة والسيطرة للحزب باستخدام أجهزة نداء مفخخة. وفي الشهر التالي، قتلت القوات الإسرائيلية يحيى السنوار، قائد حماس والعقل المدبّر لهجوم 7 أكتوبر. وفي أوائل كانون الأول / ديسمبر، انهار نظام بشار الأسد في سوريا، الحليف الإيراني القديم. وفي الوقت نفسه، زادت المواجهات الخطرة بالصواريخ والطائرات المسيّرة بين إيران وإسرائيل من حدة التوتر، لكنها أضعفت أيضاً صورة إيران كقوة إقليمية، حيث زعمت إسرائيل أنها حيّدت جزءًا كبيرًا من الدفاعات الجوية الإيرانية.
مع نهاية العام، كانت قدرات "محور المقاومة" قد تراجعت، وأصبحت طهران معزولة إلى حدّ كبير عن منطقة المشرق. بل إن قدرة إيران على الدفاع عن أراضيها نفسها بدت هشة. وفي ظل استعداد دونالد ترامب، الداعم القوي لإسرائيل، للعودة إلى البيت الأبيض، رأت حكومة نتنياهو، التي ازدادت ثقة بنفسها، فرصة نادرة لتوجيه ضربة حاسمة لإيران، من خلال تدمير منشآتها النووية وتخريب بنيتها التحتية الاقتصادية، في هجوم يدفع بالجمهورية الإسلامية إلى حافة الانهيار.
إيران على المحك
ومع ذلك، لم يتّبع ترامب المسار المتوقع إسرائيليًا. فالرئيس، الذي يخشى أن تؤدي الضربات العسكرية ضد إيران إلى توريط الولايات المتحدة في حرب مُكلفة، قد قاوم حتى الآن الضغوط الإسرائيلية للتخلي عن الدبلوماسية وشنّ حرب مفتوحة على إيران. وبدلًا من ذلك، يدفع ترامب باتجاه نسخة جديدة من الشيء ذاته الذي رفضه في ولايته الأولى: اتفاق نووي. وفي هذا التوجه، يحظى بدعم دول الخليج، التي رغم معارضتها للاتفاق السابق، باتت الآن أيضًا تفضّل المسار الدبلوماسي مع إيران. فمنذ تولّي ترامب الرئاسة، نصحت كلٌّ من عُمان وقطر والسعودية والإمارات بعدم خوض الحرب، وعملوا كوسطاء بين طهران وواشنطن. والسبب الأوضح لهذا التحول هو الخوف مما قد تسببه الحرب في الخليج من دمار لاقتصاداتهم. وعلى مستوى أعمق، ترى السعودية ودول الخليج الأخرى أن الاتفاق النووي ضروري لإرساء توازن جديد في موازين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط.
ويرتبط دعم الخليج للاتفاق مع إيران جزئيًا بالتغير في موقع إسرائيل الإقليمي. فحتى وهي تواصل هجومها في غزة، بدأت إسرائيل بالفعل تخرج من الحرب وهي واثقة من تفوّقها العسكري المطلق، ومستعدة لاستثماره في فرض الهيمنة على الشرق الأوسط. وإلى جانب توسعة احتلالها لغزة—حيث يلمّح قادة إسرائيليون إلى إمكانية فرض حكم عسكري دائم—تفرض إسرائيل سيطرتها على جنوب لبنان وتنفّذ عمليات عسكرية واحتلال في أجزاء واسعة من سوريا. وهي الآن تسعى لمدّ حملتها المنتصرة في المشرق لتشمل الخليج، عبر هجوم عسكري على إيران. ولكن مثل هذا الهجوم، إلى جانب ما قد يثيره من ردّ إيراني قد يشمل أهدافًا داخل شبه الجزيرة العربية، يهدد أيضًا بزعزعة إمدادات الطاقة العالمية ويثير الشكوك حول استدامة الطفرة الاقتصادية في الخليج.
تاريخيًا، قاومت القوى الإقليمية الأساسية في الشرق الأوسط—بما في ذلك الدول العربية، وإيران، وإسرائيل، وتركيا—هيمنة أي طرف إقليمي واحد. فعندما كانت الدول العربية تطمح للزعامة تحت راية القومية العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تحالفت إيران وإسرائيل وتركيا لاحتواء ذلك الطموح. وحتى بعد الثورة الإسلامية عام 1979، لم تكن إسرائيل تعادي إيران تلقائيًا إذا كانت موازين القوى الإقليمية تملي عكس ذلك: ففي أوائل الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات، حين بدا أن العراق بقيادة صدام حسين يكتسب اليد العليا ويطرح نفسه زعيمًا للعالم العربي، زوّدت إسرائيل إيران الثورية بالمعلومات الاستخباراتية والعتاد الحربي. لاحقًا، حين صعدت إيران كقوة إقليمية، تحالفت إسرائيل مع الدول العربية لمواجهتها.
واليوم، ومع ادّعاء إسرائيل بأنها القوة التي لا ينازعها أحد في المنطقة، تجد الدول العربية وإيران—وأيضًا تركيا—أنها بحاجة إلى بعضها البعض لإعادة التوازن. ومن بين هذه الدول البحرين ومصر والأردن، التي لا تربطها علاقات دبلوماسية بإيران، لكنها، مثل باقي الدول العربية، رفعت بشكل كبير من مستوى تواصلها معها. والأهم من ذلك، أن دول الخليج أصبحت الركيزة التي تعتمد عليها إيران في مساعيها للتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي. وتدرك دول الخليج أن في الصراع بين إيران وإسرائيل، فإنها هي الجائزة. فإسرائيل تسعى إلى محور مع العالم العربي لاحتواء إيران، بينما تريد إيران حرمان إسرائيل من أي موطئ قدم في شبه الجزيرة العربية. أما قادة الخليج، فيرغبون في نظام إقليمي يُقيّد كلًا من إيران وإسرائيل ويُعزز من نفوذ حكوماتهم. وهذه الحاجة إلى التوازن هي ما حوّلت حلفاء واشنطن الخليجيين من خصوم سابقين للاتفاق النووي إلى مناصرين أقوياء له. فكما يرون، فإن اتفاقًا جديدًا بين إيران والولايات المتحدة من شأنه أن يحرم إسرائيل من مبررٍ لشنّ حرب قد تصل نيرانها إلى شواطئهم، وفي الوقت نفسه يمنع إسرائيل من تثبيت هيمنة إقليمية غير خاضعة للرقابة.
وفي المقابل، فإن إيران، التي تتوق إلى التوصل لاتفاق نووي لتجنّب الحرب وإنعاش اقتصادها المتعثر، باتت تعتمد بشكل متزايد على دول الخليج في إدارة علاقتها بإدارة ترامب والحفاظ على زخم المفاوضات. فعلى سبيل المثال، لعب وزير خارجية عُمان دورًا محوريًا في المحادثات عبر تقديم مقترحات تجسر الهوّة بين طهران وواشنطن؛ كما تبنّت السعودية فكرة إنشاء كونسورتيوم نووي إقليمي مع إيران لإدارة تخصيب اليورانيوم بشكل مشترك. وألمح وزير الخارجية السعودي إلى أن المملكة مستعدة لاستخدام قوتها الاقتصادية لدعم تنفيذ الاتفاق النهائي.
محور الاستقرار
تحتاج إيران ودول الخليج اليوم إلى بعضهما البعض، وكلاهما بحاجة إلى اتفاق نووي. وهذه تطوّرات مُرحّب بها، إذ من شأنها أن تبني الثقة بين الجيران الخليجيين، وتمكّنهم من تعميق التعاون ليشمل الأمن والاستثمار والتجارة. علاوة على ذلك، فإن إعادة الانخراط مع إيران لا تتطلب التخلي عن جهود التطبيع مع إسرائيل. فالقادة الخليجيون لا يريدون الوقوع في خيار فاوستي بين إيران وإسرائيل، بل يريدون علاقات متوازنة مع الطرفين لتحقيق توازن إقليمي يخدم مصالح بلدانهم ويوفّر السلام والاستقرار الضروريين لأهدافهم الجيو-اقتصادية. ومن وجهة نظر دول الخليج، فإن الاتفاق النووي سيُنسّق استراتيجيتهم مع سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، وقد يُتوَّج ذلك بشراكة استراتيجية رسمية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
وقد بدت زيارة ترامب الأخيرة إلى الخليج وكأنها تؤكد هذه التوقعات. فحتى قبل وصوله إلى المنطقة، تجاوزت إدارته التحفظات الإسرائيلية وأبرمت اتفاقًا ثنائيًا لوقف إطلاق النار مع الحوثيين. وفي الوقت ذاته، شكّلت الصفقات الاقتصادية الطموحة التي عرضها القادة العرب على ترامب خلفيةً لتصريحات أميركية بشأن غزة وإيران وسوريا، جاءت متوافقة مع أولويات الخليج، ولو على حساب الرؤية الإسرائيلية. وفي كل محطة من رحلته، كرّر ترامب تفضيله لحل الملف النووي الإيراني عبر الدبلوماسية. وفي بعض الأحيان، بدا كأنه يتفهم المخاوف العربية من الحرب في غزة؛ ففي أبو ظبي، على سبيل المثال، قال: "الكثير من الناس يتضوّرون جوعًا في غزة"، فيما اعتُبر انتقادًا واضحًا للحصار الإسرائيلي المستمر منذ 10 أسابيع على المساعدات إلى القطاع.
لكن لكي يُفضي هذا التحوّل فعلاً إلى سلام واستقرار إقليميين، يجب على الولايات المتحدة أن تُقدّم الاتفاق النووي الجديد مع إيران ضمن إطار استراتيجي أشمل. ويجب أن يترافق هذا الاتفاق مع دفع لتوسيع "اتفاقات أبراهام" لتشمل تطبيع العلاقات الإسرائيلية ليس فقط مع السعودية، بل أيضًا مع دول عربية أخرى مثل سوريا. ومن أجل استئناف مسار التطبيع مع إسرائيل، ستُطالب الرياض بإنهاء الحرب في غزة وضمان مستقبل سياسي قابل للحياة للفلسطينيين. وفي مستوى أعمق، يجب أن تفكّر الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون بالتطبيع كعنصر مكمل وضروري لكل من الاتفاق النووي الأميركي-الإيراني، ومحور إيران–الخليج المتنامي، بحيث تُشكّل هذه العناصر الثلاثة معًا توازنًا إقليميًا جديدًا.
وبالطبع، قد تتعثّر المفاوضات الأميركية مع إيران، وقد تعود واشنطن إلى نهج أكثر تصعيدًا في التعامل مع طهران. مثل هذا السيناريو من المرجح أن يطيل أمد الصراع في المنطقة ويغلق الباب أمام أي تقدّم إضافي في مسار التطبيع العربي-الإسرائيلي في المدى القريب. لكن إذا تم التوصل إلى اتفاق، فإن دول الخليج ستكون أمام فرصة لتصبح محور النظام الإقليمي الجديد، تتقاطع عبرها المحاور التي تربط إيران، وإسرائيل، والولايات المتحدة. وبعد سنوات من الحروب والاضطرابات، قد تكون هذه الفرصة حقيقية لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
المصدر: فورين آفيرز - Foreign Affairs
الكاتب: غرفة التحرير