لا يمكن قراءة ما جرى في شرم الشيخ على أنه اختراق سياسي بقدر ما هو تثبيت لواقع جديد تُعاد هندسته بعيداً عن جوهر القضية الفلسطينية. فالمؤتمر، كما خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي رافقه، قدّم مقاربة تُقصي عمداً أي حديث عن المستقبل السياسي للفلسطينيين، وتتعامل مع غزة والضفة كملفين منفصلين يمكن احتواؤهما إدارياً وأمنياً لا سياسياً.
اللافت أن الخطاب الأميركي تجنّب حتى العبارات البروتوكولية التي اعتادت الإدارات السابقة استخدامها عند طرح أي مبادرة تتصل بالنزاع، فلا ذكر لحل الدولتين، ولا للسلطة الفلسطينية، ولا لأي التزام تفاوضي يربط وقف الحرب بمآلات سياسية.
في مقابل هذا التجاهل، أعاد ترامب التأكيد على أن المسار الإقليمي هو العنوان الحقيقي للمشهد، بدءاً من توسيع اتفاقيات أبراهام، وصولاً إلى استشراف انخراط أطراف معادية تاريخياً لإسرائيل في ترتيبات التطبيع. هذه المقاربة لا تعتبر الفلسطينيين طرفاً سياسياً، بل تضعهم في خانة المشكلة الواجب احتواؤها كي لا تعيق مشروع إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق الرؤية الأميركية–الإسرائيلية.
الاتفاق المطروح لا يتعدى كونه ترتيبات تقنية لتبادل الأسرى وخفض مستوى القتال، وليس إعلاناً عن نهاية حرب. فالمستوى الأمني لم يُرفع عن الطاولة، بل أُعيد توصيفه بما يسمح باستمرار العمليات تحت عناوين موضعية، على طريقة ما يجري في جنوب لبنان حيث تُدار المواجهة بعيداً عن الإعلام وتحت شعار مثل "ملاحقة الأنفاق". تصريح وزير جيش الاحتلال عن أن تدمير الأنفاق جزء من مهمة نزع السلاح يشي بأن الاتفاق لا يوقف النزاع بقدر ما يمنحه شكلاً مختلفاً وأقل صخباً.
بالموازاة، تُركّز الخطة على التعامل مع غزة ككيان منفصل قابل للإدارة عبر صيغة محلية، بعيداً عن أي تمثيل وطني جامع. هذا يعني تكريس القطيعة السياسية مع الضفة، وتعميق الفصل الجغرافي والديمغرافي بلا أي غطاء تفاوضي أو التزام حتى لفظي بفكرة الدولة الفلسطينية. وفي هذه البيئة، يتحول أي دور للسلطة الفلسطينية إلى وظيفة إدارية مشروطة بالبقاء لا بالتمثيل. اللقاء الأخير بين نائب رئيس السلطة الفلسطينية حسين الشيخ ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، والتصريحات التي تبعته، تعكسان استعداداً ضمن بعض الدوائر الفلسطينية للتعاطي مع هذه المعادلة بوصفها فرصة لضمان الاستمرار المؤسسي، لا لتثبيت حق سياسي.
المنظور الإسرائيلي يبدو منسجماً بالكامل مع هذا المسار. فمقولة نتنياهو الشهيرة "لا حماسستان ولا فتحستان" تتحول من شعار إلى خطة عمل: لا اعتراف بأي كيان فلسطيني، ولا استعداد للتعامل مع غزة والضفة كمساحة سياسية واحدة. الضم في الضفة جارٍ كحقيقة أمر واقع، ولو من دون إعلان رسمي لتجنّب إحراج الوسطاء. أما غزة فتُدفع باتجاه إدارة معزولة أقرب إلى سلطة خدماتية تحت رقابة أمنية. النتيجة المرجّحة هي إعادة تعريف الفلسطينيين كـ"سكان" لا شعب يمتلك قضية.
من جهة أخرى يضع هذا المشهد الدول الأوروبية أمام معادلة شائكة. ففرنسا تسعى لحشد اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، ورئيسة المفوضية الأوروبية تطالب بمقعد على طاولة إدارة القطاع. لكن أي حضور أوروبي سيأتي ضمن شروط مسبقة، لا في إطار شراكة سياسية حقيقية أو رؤية مستقلة. السؤال هنا ليس إن كانت الدول الأوروبية تعترض، بل: ما هو الثمن الذي ستدفعه للقبول؟ وهل تملك أساساً القدرة على فرض مسار مغاير لما ترسمه واشنطن وتدعمه تل أبيب؟
التجارب الفلسطينية السابقة تثبت أن مرحلة ما بعد التهدئة غالباً ما تحمل الخسائر الأكبر. فتجميد النار لا يعني تثبيت المكاسب، بل يتيح استكمال السياسات على الأرض بأدوات لا تسلط عليها الضوء اعلامياً. ما يجري اليوم لا يشير إلى تسوية نهائية، بل إلى ضبط الميدان بوسائل متعددة: أمنية، إدارية، إقليمية، ودولية، وكلها تتجنب الاعتراف بأي مسار سياسي للفلسطينيين.
خطر هذا المسار أنه يُقدَّم كحلّ ضروري لإنهاء الحرب، فيما هو في جوهره إعادة إنتاج للصراع بأدوات مختلفة. لا نزع سلاح من دون سيطرة ميدانية، ولا إدارة مدنية من دون تمثيل حقيقي، اضافة للعقبات أمام التطبيع ايضاً. ما يجري ليس "سلاماً" بالمعنى السياسي، بل إعادة ترتيب لبيئة الصراع بما يسمح باستدامته من موقع أقل كلفة على كيان الاحتلال وأكثر قابلية للتسويق دولياً.
الرهان على الزمن أو على الشعارات الأيديولوجية لم يعد كافياً. فالمشهد يُراد له أن ينتقل من إدارة حرب إلى إدارة واقع ما بعد الحرب، من دون الاعتراف بحقوق أو دولة أو تمثيل. وبهذا يمكن القول بأن هذا الاتفاق هش يحمل أسباب تفتته خلال السنوات القادمة اذا لم يدعم بخطوات جدية لقيام دولة فلسطينية من جهة وتقييد إسرائيل عن الاستمرار بالابادة بأشكالها.
الكاتب: غرفة التحرير