في كل الحروب ورغم قسوتها، يجب أن يظل المستشفى رمزاً للملاذ الآمن، المكان الذي يفترض أن ينجو فيه الإنسان ويلقى فيه ما يحتاج من أبسط حقوقه. هذا ما نصّت عليه اتفاقيات جنيف والقوانين الدولية التي جرّمت بشكل واضح أي اعتداء على المؤسسات الطبية في حالة الحرب. لكن الاحتلال الإسرائيلي في حربه على لبنان في أيلول/ سبتمبر عام 2024 قرر أن يكسر هذه القدسية، وأن يحوّل المستشفى من مكان للحياة إلى مسرحٍ للمجزرة. هكذا كان المشهد في مستشفى مرجعيون حين استهدف مدخله بشكل مباشر يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، رغم أنه كان يضم مرضى وأطباء ومسعفين، ورغم علم العدو المسبق بطبيعة المكان.
لم تكن المجزرة "حادثاً عارضاً" ولا عن طريق الصدفة والخطأ، بل كانت فعلاً مقصوداً وممنهجاً، يندرج ضمن سياسة الاحتلال في ضرب الأعمدة الأساسية للمجتمع، وفي مقدمتها القطاع الصحي، لكسر إرادة الناس، وهذا ما تعمد فعله في غزة وكذلك في لبنان.
لحظة الفطور: استهداف المعنى الإنساني
المشهد في مرجعيون ذلك الصباح لم يكن عادياً حيث نفذت طائرات العدو غارة على مدخل المستشفى في تمام الساعة 9 و40 دقيقة. واستشهد حينها المسعفون الذين كانوا مجتمعين على طاولة الفطور، في لحظة يومية بسيطة يلتف فيها الناس. اختار العدو هذا التوقيت بدقة، ليوصل إن حتى أبسط تفاصيل الحياة – الجلوس مع الزملاء لتناول الطعام– ممكن أن تكون في برنامج الاعتداءات.
هذا الأسلوب لم يكن جديداً؛ فالعدو اعتاد أن يختار توقيتات تحمل دلالات رمزية أو اجتماعية ليضرب فيها كما فعل قبلها في غزة وفعل لاحقاً في الضاحية الجنوبية والجنوب إذ حرص على شن الاعتداءات خلال الأعياد وعطل نهاية الأسبوع، كما في شهر رمضان الماضي حيث أرسل إنذارات للناس ثم شنّ غارات مكثفة، وكذلك في الجنوب قبيل الانتخابات البلدية حين كثّف قصفه لمنع الأهالي من العودة إلى قراهم وممارسة حقهم. وكذلك ليلة عيد الفطر حين نفذ غارة اغتال فيها والداً كان مع ابنه. وفي كل هذه المشاهد المتعمدة كان الهدف واحد: قتل لحظات الطمأنينة الجماعية، وحرمان الناس من أبسط معاني الحياة الطبيعية. لكن، ورغم ذلك، فشل العدو. فالحياة لم تتوقف، والناس تابعوا حياتهم، وأقاموا أعيادهم، وشاركوا في الانتخابات، وكأنهم يردّون كيد العدو "الحياة أقوى من الموت".
محاولة قتل الحياة… وفشلها المتكرر
العدو يظن أنه يستطيع من خلال اختيار اللحظات التي يجتمع فيها الناس سوياً في حالة فرح أن يزرع اليأس والخوف. لكنه في الحقيقة كان يعمّق قناعة مجتمع المقاومة بأن استهداف لحظات الحياة هو أبلغ دليل على العجز ونفاذ القوة. فمن يفشل في المعركة الميدانية يلجأ إلى ضرب المدنيين، ومن يعجز عن مواجهة المقاومة مباشرة يحاول تفتيت المجتمع عبر محاولة كسر إرادته.
لكن لبنان أثبت أن هذه السياسة لا تجدي. في كل مرة حاول العدو قتل الحياة، وُلدت مقاومة جديدة. وفي مجزرة مرجعيون تحوّل دم المسعفين إلى شهادة مضاعفة في الإصرار على الحياة رغم حقد العدو وهمجيته..
القطاع الطبي مقاومة بوجه آخر
أظهرت الحرب الأخيرة على لبنان أن المقاومة لا تحصر بالجانب العسكري فقط. فالقطاع الطبي مارس وجهاً آخر من وجوه المقاومة "مقاومة الاحتلال عبر إنقاذ الحياة". الأطباء والمسعفون لم يغادروا مواقعهم رغم القصف والتهديدات، بل واصلوا عملهم اليومي وسط أصعب الظروف. كانوا إلى جانب من بقي في قريته، وأسعفوا الجرحى رغم الخطر، وحوّلوا المستشفيات إلى خطوط دفاع أمامية في وجه الموت.
في مرجعيون، كان المسعفون الشهداء يدركون خطورة الوضع. ورغم ذلك، رفضوا المغادرة قبل أيام من الاستهداف، مُصرّين على البقاء إلى جانب الناس في كفرشوبا والقرى المحيطة. لم يكن قرارهم يحمل لهم أي مصلحة شخصية؛ كان خياراً أخلاقياً ووطنياً، يعكس حجم المسؤولية التي أخذها هؤلاء الشبان على عاتقهم.
دم الشهداء في مجزرة مرجعيون كان شهادة على إجرام العدو وشهادة على الحياة، أراد العدو حينها أن يقول إن لبنان لم يعد آمناً لأحد، لكن دم الشهداء قال العكس أن الحياة مستمرة رغم كل وحشيته وهذا ما أثبتته دماء المسعفين السبعة في مرجعيون. وإذ بالناس يزدادون تمسّكاً بالحياة، وبالحق، وبالمقاومة.
الكاتب: غرفة التحرير